القلب النقي

TT

لو أن هناك أحدا سألني وطلب مني أن أحدد عشر شخصيات أعجبت بهم، واعتبرهم أعظم وأهم وأحب الشخصيات إلى قلبي في القرنين (20 و21)، لاخترت أربعة من الرجال، وأربعاً وأربعين من (الستات) (أي النساء).

الرجال لا أريد، ولا يهمني أن أذكر أسماءهم لأنهم ليسوا من اختصاصي. أما الستات، ثلاث وأربعون منهن، من الصعب أن أذكر أسماءهن، لأنهن من أسراري المخجلة، غير أن الباقية الأخيرة منهن لا أتحرج من ذكر اسمها لأنها أصبحت مشهورة، وعلى كل لسان، وهي الأم (تريزا) ـ التي تمنيت من أعماق قلبي لو أنها كانت أماً لي، أو على الأقل كنت أنا (بعلاً) لها، بالاسم فقط لا بالفعل.

لا تسخروا من كلامي، فلست أهبلَ أو مجنوناً، إنني إنسان وأعرف وأفهم معنى العواطف.. إن تلك المرأة لو أن الله أمد في عمرها لوصل الآن إلى مائة عام.

إنها ليست امرأة مسلمة، ومع ذلك إنني أحبها واغلبها وأترحم عليها بقدر ما رحمت هي الأطفال والعجزة والمرضى والفقراء المعدمين، وبقدر ما وهبت أيام حياتها في خدمتهم وتمريضهم وإطعامهم وإيوائهم وتنظيفهم ونقل أوساخهم بيديها المعروقتين من دون أن تسد أنفها أو تقرف أو تتحرّج.

تلك الأم، تركت أوروبا كلها ببهرجتها وإغراءاتها، وذهبت إلى أعماق أعماق الهند، ونامت مع المنبوذين على الطين ولا أقول الحصير، وضربت أروعَ وأقسى الأمثلة بالتضحية، ولم تتفوه في حياتها كلها، بكلمة (تبشيرّية) واحدة، لم تدع أحداً للدخول في أي ديانة كانت، تركت الناس على سجيتهم وفطرتهم، لم يكن همها لا جنة ولا نارا في الدنيا الآخرة، كان همها فقط مسح دمعة طفل يتيم في الحياة الدنيا، ورفد أرملة لا تدري إلى أين تذهب، وعزاء مكلوم تقطعت به السبل، وتخفيف عذاب مريض لا يجد ولا حبة (اسبرين)، وستر عورة مشلول تكاد تدهسه الأقدام وهو منطرح على رصيف الحياة التي لا ترحم.

إنني أتأسى بالرسول الكريم الذي وقف تقديراً للإنسان لأنه مجرد إنسان، لقد وقف الرسول الرحيم أيها الناس، عندما شاهد جنازة (يهودي) تمر من أمامه، ولأنه أكد كذلك أن رجلاً قد دخل الجنة لأنه أنقذ حياة (كلب) بشربة ماء، ولم يذكر ما إذا كان ذلك الرجل مسلماً أم مسيحياً أم يهودياً أم بوذياً أم عاقلاً أم مجنوناً (!!).

فلا تؤاخذوني إذن لو قلت لكم إنني أحببت تلك (التريزا) ولا يهمني ديانتها ما تكون، وعلى أي جنب هي تنام أو تموت؟!، وإنني والله أفضلها على آحاد أو مئات أو آلاف أو ملايين من بعض المسلمين (المفشخرين) أو (المضروبة عقولهم) الذين لا يعرفون من الإسلام غير اسمه، ولم يسهموا يوما بأي عمل إنساني، ولا هم لهم إلا التعصب المقيت وكراهية الآخرين والدعاء عليهم.

وإذا أراد احد أن يعرف من هي (تريزا) تلك، فإنها ذهبت للهند عام 1948، ولم يكن في جيبها غير ثلاثة دولارات، وماتت وهي ترعى عشرات الآلاف من الأطفال وعشرات الآلاف من المرضى، وفتحت مئات المدارس والمستوصفات ومئات بيوت الملاجئ، وأهم من ذلك كله ـ وهذا هو المهم ـ أنها علمت الناس (المحبة)، إلى درجة أنها عندما قدمت لعائلة مسلمة فقيرة كيساً من الأرز، أعطت هذه العائلة نصف ما في ذلك الكيس لعائلة هندوسية مجاورة لها.

وعندما حاول البابا (بولس السادس) أن يستقطبها ويغريها بأن تعمل في روما رفضت، وفضلت أن تعيش مع المجذومين والمحرومين. وعندما فازت بجائزة نوبل وحصلت على (190) ألف دولار، فتحت بقيمتها في (كلكتا) بيتا لإيواء الأطفال المشردين وأطلقت عليه اسم: (القلب النقي).

وعندما ـ وما أكثر ما رددت (عندما) ـ ولكنني أكرر وأقول: عندما ماتت أوصت أن يدفنوها في (شالها) الذي لم يفارقها طوال حياتها ولم ترض عنه بديلا، إلى درجة أن الرتق فيه قد طغى على الحياكة.

وتلومونني لو أنني تمنيت أن أكون ابناً أو بعلا لها (!!)، أرجوكم اتركوني بحالي، ولن أقول: لكم دينكم ولي دين.