التعليم والحرية

TT

حينما كنا طلابا في قسم علم النفس بكلية التربية، كان السؤال التقليدي الذي نتوقعه في الاختبار: أيهما أكثر تأثيرا على الإنسان البيئة أم الوراثة؟ وكانت الإجابة النموذجية التي ينتظرها معلمونا تتلخص في القول بأن الإنسان هو حصيلة تفاعل البيئة والوراثة، فإن قلت إن الوراثة أشد تأثيرا من البيئة أو العكس، أطلق عليك المعلم العربي نيران أصفاره.. وحينما ذهبنا للدراسة العليا في أمريكا وجدنا الجدل على أشده حول هذه المسألة، فهناك فريق من كبار علماء النفس يرى أن الوراثة أعظم أثرا من البيئة، وثمة فريق آخر يرى العكس، ولا بأس عليك كطالب أن ترجح هذا الاتجاه أو ذاك، وتحصل على درجتك كاملة بقدر محاولتك العلمية في دعم وجهة نظرك، حتى لو خالفت في ذلك موقف معلمك..

المثال السابق يوضح الحرية العلمية التي يجدها الإنسان في الغرب، والتي تشكل السبب الرئيسي ضمن منظومة أسباب تقدمه، ومثل هذه الحرية هي ما نفتقر إليه في مدارسنا وكلياتنا، فسيادة أحادية الرأي عادة ما تكون على حساب الفكر الاجتهادي الخلاق، فهي تصادر حرية الفرد، ولا تسمح بالخروج عن النمطية والقوالب الجاهزة، فتنشأ الأجيال وفق الصور الكربونية المتوارثة..

ومما ظل عالقا في الذاكرة من دراسة المرحلة الثانوية درس في النقد والبلاغة يقارن بين الشعر الحر والشعر العمودي، ويأتي بمقارنات ظالمة بين هذين النوعين، من خلال النماذج المقدمة، فهو يختار للشعر التقليدي أبياتا للمتنبي وأحمد شوقي وعمر أبو ريشة، بينما ينتقي من صفحات القراء مقطوعات تعيسة من الشعر الحر، ليخلص المعلم بعد ذلك في تقريرية ملزمة يفرضها المنهج والكتاب المدرسي بأن الشعر الحر يعتبر مصدرا رئيسا من مصادر أمراض القلب والصدر والعقل، وهو المتسبب في إحداث ثقب الأوزون.. وأرجو ألا يفهمني البعض هنا بأنني أدافع عن الشعر الحر أو لدي موقف من الشعر التقليدي، فليس هذا ما هدفت إليه هنا، فما قصدته فقط التدليل على فقدان الحرية، وهي السمة التي ظلت تغلب على مناهجنا الدراسية، فتطبع حياة الفرد بطابع المتلقي الانقيادي الذي لا يمتلك المرونة الذهنية لمحاكمة الأفكار وتقويمها، والذي لا تتسع دوائر إدراكه لجدليات الأفكار وتعدد الخيارات، ومثل هذا الشخص يصبح فريسة سهلة للتأثير والإيحاء والاستهواء..

فهل تغير الأمر في مناهجنا الحديثة، أم أن الأمر ظل على ما هو عليه؟ وهل انتقلنا من مرحلة تلقين الأفكار إلى مرحلة منح الطالب حرية الاختيار؟ لست متابعا جيدا لحالة مناهجنا اليوم، ولكني لا أكاد أرى انعكاسا لهذه الحرية المفترضة في الكثير من سلوكيات الجيل الجديد، خاصة ما يتصل بثقافة الحوار، وسيكولوجية الاختلاف.. ومع هذا سنظل ننتظر بيادر الضوء من رحم الأيام.

[email protected]