الموت، مجرد عمل آخر.. تجربة أخرى

TT

ذهبت قبل أشهر أزور أحمد الربعي، متوكئا جرأة لا أملكها وشجاعة لا أطلبها. فأنا لا أقوى على رؤية أصدقائي في المرض. لكن الربعي كان يساعدنا على ضعفنا. فكان ونحن، في أحزن القلق، يتصل ليروي آخر نكتة سمعها، أو ليضحك من مقال سقيم أو رجل سقيم أو بلد سقيم. لكنني وجدته متعباً أفحمت بشرته الكيمياء، وجرده المرض من كل شيء إلا الدعابة والعزم.

أخبرته انني قد أعدّ كتابا عن الخليج وانني أنوي وضع فصل كامل عنه، بصفته نموذجا مذهلا لجيل الضياع. كيف ذهب إلى ظفار ليقاتل في صفوف الشيوعيين، وكيف اعتقل، وكيف حاول مع رفاق له ـ جميعهم تحولوا إلى الصحافة ـ نسف بعض المنشآت في الكويت، وكيف أفرج عنه، وكيف مضى في الكتابة الثورية الحادة، وكيف نقد الدولة، وكيف هدأ، وكيف أحبه الناس، وكيف علم في الجامعة وفي الزاوية اليومية جيلا من الشباب، وكيف مضى يقاتل ضاحكا ويعمل ضاحكا ويشقى ضاحكا ويثرى من حوله الآخرون؟ قال يومها إنه يضع تلك التجربة في رواية ينكبّ عليها كلما خرج من العلاج. واعتذر عن وهنه. وقال ضاحكا: إنها الكيمياء اللعينة، وهي أسوأ من المرض. ولم يرد أن يعلن لنا، و«أم قتيبة» واقفة مثل حارس يتحاشى البكاء خوف التأنيب، أن الخبث في مراحله الأخيرة، فاستبدل الإعلان بالإشارة، إذ قال إنه لن يذهب إلى العلاج في أميركا بعد ذلك، مكتفياً بما هو متوفر في الكويت.

حدثنا عن مشاريعه. عن رواية أخرى بعد الانتهاء من رواية «ظفار»، وقال: في الرواية تقول كل ما تريد على لسان أشخاصها. في المقال تتحاشى الأسماء والإحراج وأحياناً الحقائق. وتوقف ليروي نكتة أخرى عن سقيم آخر. وكان يحاول بلا انقطاع أن يصرفنا عما نرى فيه من سيماء. وكان يجمع أنفاسه بصعوبة واضحة، فيخذله صوته، فيحاول من جديد. أحرجتنا الزيارة (الزميل العزيز يوسف الجاسم وأنا)، وقمنا نذهب نريده يرتاح، لكنه استمهلنا. ثمة نكتة أخرى: المصري الذي ذهب إلى بغداد. ونكتة أخرى: اللبناني الذي فتح شركة مع كويتي دامت خمس سنوات، وضع خلالها الأول خبرته والثاني الرأسمال. وقد انفصلا حبّياً: الكويتي أخذ الخبرة، واللبناني أخذ رأس المال!

أخذ الدنيا غلابا. وسخّر ما أوتي من وقت لنفسه وللتجربة الإنسانية بكل ضعفها وقوتها وسائر وجوهها. وكان قبل أي شيء، إنساناً رقيق العاطفة في صوت عال. دافع عن مشاعره لا عن مواقفه. وعن ضعف الآخرين. وقاتل الاستبداد، سواء دخل بلده أو بقي خارجا. وعزيزاً كريما صادقا غاب.