آه يا أحمد..

TT

أحمد الربعي رحل عنا، ارتحل فارس الكلمة والصوت الأمين، ورحل بعد صراع مرير مع المرض، وصراع أمر مع الجهل والتعصب والتطرف. كان رجلا متعدد المهام وكثير الأدوار، ناضل في الحركات الوطنية والقومية وسجن بسبب ذلك، كان مناضلا في عمله البرلماني ومجاهدا في عمله الجامعي، وكان نصيرا قويا للكلمة وللرأي والتسامح، حارب بضراوة آفات التمييز والطبقية، وكان يمقتها ويحقرها، وقف صلبا أمام موجات التكفير والترهيب التي اعتلت المنابر. وفي فترة توليه منصب الوزارة الأهم وهي وزارة التربية والتعليم، والتي كان يخوض فيها حربا مفتوحة على الجهل والتزمت، قام أعداؤه بتنظيم حملات شعواء ضده وبصورة شخصية لإجهاده وإشغاله، وتحويل الصراع الى معركة شخصية، ولكنه كان مصرا وعنيدا في نصرة الخير والحق حتى لم يعد بالامكان من «الناحية السياسية» أن يستمر أحمد الربعي في منصبه لأن أعداءه جعلوه «هدفا» استراتيجيا ونصرا معنويا لا بد من تحقيقه. واستمر الربعي في حواراته التلفزيونية ومقابلاته وندواته ومقالاته على نفس الخط ونفس النهج. وقد كانت لي معه لقاءات ومحادثات كثيرة، كان يرفض اليأس، ويصر أن العالم العربي لن تكتب له فرصة العيش بكرامة وسوية بين الأمم، حتى يتخلص من آفات التطرف والتمييز الطبقي والجهل، وإن هذه جميعا أمراض فتاكة لن يكون بالإمكان النجاة منها من دون مواجهتها مهما كانت النوايا حسنة وسليمة. وأصيب بالمرض اللعين، السرطان، تمكن من جسده ومن خلايا دماغه، ولكن لم يتمكن أبدا من روحه المناضلة وعمل على الأمل في أن يحارب بتفاؤل عجيب وإصرار أعجب، ولقد جمعتني معه مدينة بوسطن الأمريكية، التي كان هو بها للعلاج، وكنت أنا هناك لعلاج ابنتي من نفس المرض اللعين.

كان يصر أن الحياة لا يمكن أن تستمر من دون الأمل، ولكنه كان مدركا أيضا أن حجم التحدي كبير، وأن حالة الإنكار التي يعيشها العرب هائلة ومدمرة، وهي تكاد تكون أقرب إلى الأكاذيب. كان محبا للشعر والأدب متيما بالتاريخ، بليغ الكلام وقوي الحجة، حديثه لا يمكن أن تمل منه، لأن المنطق فيه كان واضحا. كان فخورا بأبنائه، ويعتبرهم هدية لبلاده، ويسعد دائما بإنجازاتهم المميزة كفرحة أي أب حبيب. بساطة أحمد الربعي في مظهره، الذي كان خاليا من أي «زينة» مبالغ فيها، كانت انعكاسا لأسلوب حياته وطريقة تفكيره، وكان اصراره على «فتح» الأزرار الأخيرة في دشداشته هو رمزية لرفضه التام لفكرة القيد والخناق، فكان يؤيد ويدافع عن الحرية، ويعتبرها حقا إلهيا مصونا لا غبار عليه ولا ينبغي سلبه من أي أحد لحساب أي أحد.

سيفتقد العالم العربي برحيل أحمد الربعي رجلا شجاعا، كان سوطا على الجهل والعنف والتمييز والتطرف والفساد. ناضل «أبو قتيبة» في حياته وحارب بقوة في معارك كثيرة، وكان له أرتال من المحبين والمتابعين والمعجبين والمدافعين والمقتنعين بأفكاره. وما كان مرضه الأخير سوى معركة أخرى يخوضها، لم يرحمه فيها أصحاب العيون المقطبة والأصوات الحادة والألفاظ الكريهة، حتى في مرضه كان هناك تشف حقير، وهذه لعمري هي الحالة المرضية الحقيقية. ارتح يا «أبا قتيبة» فالدعاء موصول لك، بأن يتغشاك الله برحمته ويفيض عليك بالمغفرة والرضوان، وأن يسكنك جناته، وأن يلهم أهلك وأحبابك الصبر والسلوان، أما أنا فعلى الصعيد الشخصي، فسأفقد فيك أخا عزيزا جمعته معي أهداف مشتركة ومبادئ واحدة واحترام لا ينتهي. وداعا يا صديقي الحبيب، وأختم كلماتي الحزينة بانحناءة احترام وتقدير لك أيها الكبير.

[email protected]