سياسة الاستفزاز وإحراج صوت الاعتدال العربي

TT

رغم أن الخطاب السياسي الدولي المنطوق، يسعى الى تسويق مجموعة من المقولات السياسية المطمئنة، والتي تبعث على التفاؤل على غرار ضرورة تسوية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ووجوب قيام دولة فلسطينية مستقلة، والتأكيد على العلاقة العضوية الراهنة بين الاصلاح السياسي العربي، ومسألة تجفيف منابع إنتاج ذوات تؤمن بآليات العنف والإرهاب، وذلك في ظل بيئات سياسية تتمتع بالحرية والديمقراطية، فإن الممارسات السياسية تناقض تلك المقولات، وتسعى الى اشعال المنطقة العربية وتلهيبها بشكل يوحي بغياب عقل سياسي في بعض الدول الغربية، يتعاطى مع الشعوب العربية والإسلامية برصانة ونضج ورغبة حقيقية في التسوية. فالملاحظ هو أن ما يمارس في حق وجدان وكرامة وسيادة المجتمعات العربية، يحرضها على أن تصل الى نقطة من التشنج والاستفزاز والإهانة، لا تنفع فيها أي عملية لضبط النفس.

فهل أصبح الغرب نخبا سياسية وثقافية، يضطلع بأسلوب الاستفزاز، كسياسة متفق حولها ضد العالم العربي؟

أطرح هذا السؤال لأن شواهد الاستفزاز كثيرة، بالإضافة الى أن تكرار حصول الاستفزاز وتراكمه، يعكس عقلا سياسيا متهورا، لا يعي تبعات الاستفزاز، كسلوك من المعروف أن الأشخاص العقلاء يترفعون عنه وكذلك شأن الدول الحكيمة. من دون أن ننسى أن تبني سياسة الاستفزاز، يعني حالة من اللامبالاة للبعد النفسي والاجتماعي للشعوب العربية وأيضا عدم عناية بالمنظومة القيمية والثقافية والدينية المستحكمة في أنماط تفكير هذه المجتمعات وسلوكها.

وإذا ما حاولنا استعراض تاريخ سياسة الاستفزاز، فإننا سنقر بثرائه كميا وكيفيا. في حين أن نظرة سريعة على الأحداث الراهنة، تمكننا من الوقوف عند أكثر من مثال، يؤكد توخي أسلوب الاستفزاز والانخراط في اعتماده من دون اهتمام بما قد يؤول إليه من ردود فعل لشعوب، باتت أغلبها لا تملك ما تخسره عندما تستبد بها حالات الاحباط واليأس. ومن هذه الأمثلة المنتجة للاستفزاز نذكر:

ـ العدوان الاسرائيلي المتواصل على غزة وسقوط أطفال قتلى وتهجير عائلات من بيوتهم وتهديد إسرائيل بـ«هولوكوست» اسرائيلية.. إن هذه الحرب التي تستهدف المدنيين والمؤسسات المدنية، وتقتل الأطفال على مرأى ومسمع من العالم والتي ترتكب أخطاء، تجعلها في نظر القانون الدولي، حربا غير شرعية بكل المقاييس، إنما تستفز الوجدان الفلسطيني والعربي وتقوي من مشروعية ومصداقية المقاومة. والمشكل في هذه المسألة، أن إسرائيل بعد أن نجحت في تحقيق ما وصفه محمد الحوراني عضو المجلس الثوري في «فتح» بقسمنة القضية الفلسطينية، فهي تحاول استفزاز كل طرف وكل حس مقاوم لتسهيل صيده والحال أن عمليات استفزازها المتكررة ستعزز موقف المقاومة وستزيد من رصيد مريديها بمعنى أن ما تفعله اسرائيل يصب ضد مصلحتها في النهاية.

ـ وصول البارجة الأمريكية الى قبالة المياه اللبنانية في هذا التوقيت بالذات وفي سياق التطاحن اللبناني الداخلي، يضعف من موقف الأكثرية ويضفي مصداقية على أطروحات المعارضة، بدليل أن الحكومة وفريق الأكثرية قد عبرا عن استغرابهما للخطوة التي قامت بها الإدارة الأمريكية.

ـ المثال الثالث يتعلق بقضية الرسوم الكاريكاتورية وإعادة نشرها وتعميمها على صحف أوروبية عديدة، كرد فعل انتقامي من الأشخاص العرب الذين حاولوا اغتيال الرسام الكاريكاتوري.. وهنا نسجل انخراط بعض النخب الثقافية والاعلامية في سياسة الاستفزاز مع سبق الإصرار والترصد، وهو في الحقيقة موقف غير أخلاقي، خصوصا أنه نابع عن سوء نية ويقصد استهداف المشاعر الدينية للمجتمعات الاسلامية، الشيء الذي يعني أن قضية الرسوم المسيئة للرسول، قد تجاوزت إطار الحرية الفنية، لتنضوي ضمن سياسة استفزازية من غير الممكن بالنظر الى التطورات الأخيرة الوثوق ببراءتها في كل الأحوال.

إن بيت القصيد من استعراض بعض شواهد الاستفزاز، يتمثل في استنتاج معطى، نعتقد أنه لا يصب في مصلحة أي طرف.. ونقصد بذلك أن سياسة الاستفزاز تقوي عود الموقف المتشدد وتظهر أن أصحابه على حق وتضع في المقابل صوت الواقعية والاعتدال والوسطية في العالم الاسلامي نخبا سياسية وثقافية، في موقف لا يحسدون عليه بالمرة: موقف محرج ومربك، يسهم في إخماد صوتهم ويحد من علو نبرتهم.

فهل يعلم المستفزون المشار إليهم بأن أول ضحايا استفزازهم هو الجناح العربي المعتدل؟