ويا ليتهم لم يستقلوا..

TT

يبلغ عدد سكان الهند حسب آخر إحصاء للسكان عام 2001، بليونا وسبعة وعشرين مليون نسمة (1000000027)، ويقدرون اليوم بأكثر من بليون ومائتي مليون نسمة. ويقدر عدد المسلمين الهنود بأكثر من 140 مليون نسمة (أكثر من عدد سكان باكستان)، أو ما يقارب 12% من إجمالي عدد السكان، وهم مواطنون لهم مكانتهم وحقوقهم كأي مواطن آخر في الهند، في ظل نظام تقوم مرجعيته على المساواة في المواطنة، وقد برز منهم العالم والسياسي ورئيس الجمهورية. ولو تصورنا أن الهند لم تقسم عام 1947 إلى دولتي الهند وباكستان، وبقيت الهند التاريخية (البريطانية) موحدة، لكان عدد المسلمين الهنود اليوم يتجاوز الأربعمئة وخمسة وعشرين مليوناً، أي ما يتجاوز ثلث مجموع السكان. فعدد سكان باكستان حوالي 135 مليون نسمة، فيما عدد سكان بنغلاديش حوالي 150 مليون نسمة. لو أن الهند بقيت دولة موحدة، كما كان غاندي يُريد في مقابل إصرار محمد علي جناح والرابطة الإسلامية على الانفصال، رغم أن جناح نفسه كان عضواً في حزب المؤتمر الهندي قبل أن يؤدلج الإسلام في الهند، لكانت أوضاع شبه القارة الهندية اليوم مختلفة تمام الاختلاف، سواء من حيث العلاقة مع الجيران، أو موقع الهند في خريطة القوى العالمية، أو حتى الثراء الثقافي الداخلي.

ولكن ليس هذا هو الموضوع هنا، بقدر ما أنه وضع المسلمين، كأقلية أكثرية، مأخوذاً في الاعتبار بقية الأقليات الهندية، من حيث الأثر والتأثير في السياسة الداخلية والخارجية لدولة الهند الموحدة. فالمسلمون اليوم في الهند لهم أثر كبير في الحياة الهندية، سواء السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، رغم أقليتهم، فكيف يمكن أن يكون الأمر لو أنهم كانوا ثُلث عدد السكان، في ظل دولة ديموقراطية علمانية، تقوم على أساس المواطنة، لا على أساس العرق أو المعتقد؟ في ظني أن وضع المسلمين في شبه القارة كان من الممكن أن يكون أفضل، لو أنها لم تُقسم كالكعكة بين أبناء التاريخ الواحد، ولكنها بريطانيا وسياستها التي لا تترك مستعمرة من مستعمراتها، إلا ودقت فيها إسفينا من الكراهية والبغضاء بين من تركتهم لأنفسهم، أو مسمار جحا يخولها العودة متى شاءت، وأنى شاءت، ولكن الزمان في النهاية لا يصفو لأحد، مهما كان من المخططين.

حقيقة ليس المراد هنا الحديث عن قضية تاريخية، فتلك أيام مضت لها ما كسبت، وعليها ما اكتسبت، ولو لن تعيد عجلة التاريخ إلى الوراء مهما كانت الأمنيات. مناسبة الحديث عن الحالة الهندية هو ما يجري هذه الأيام من احتفاء باستقلال إقليم كوسوفو، وتحوله إلى دولة أوروبية مسلمة مستقلة، سواء لدى أهل كوسوفو من المسلمين، أو لدى المسلمين في العالم، من حيث أن هذا الاستقلال هو نقلة نوعية إيجابية بالنسبة لمسلمي أوروبا، كما كانت الباكستان حين انفصالها عن الهند، فيما يرى كاتب هذه السطور أن الإيجابية تكمن في العكس: تكمن في بقاء الإقليم جزءاً من دولة متعددة الأعراق والمعتقدات، فذاك في النهاية هو الأفضل بالنسبة لمسلمي أوروبا، بل وللمسلمين عموماً. فبمثل ما أن المسلمين الهنود كانوا سيصبحون أكثر تأثيراً في دولة هندية واحدة، كذلك فإن مسلمي أوروبا سيكونون أكثر فاعلية وتأثيراً في الحياة العامة، حين يكونون جزءاً من دولة متعددة الأعراق، حتى لو كانوا فيها من الأقلية، من كونهم دولة مستقلة يشكلون أكثريتها، في محيط من دول تختلف عنهم ثقافياً وعقائدياً. فالمسلمون والهندوس والسيخ وغيرهم من طوائف الهند مثلاً، كانوا يتشاركون الأرض والتاريخ لآلاف من السنين، ولم يتغير الوضع إلا حين بدأ الاستعمار يتلاعب بالاختلافات التي لم تهدد السلم الأهلي بشكل جدي طوال تاريخ التعايش بين الطوائف، ووجد من يعطيه أذناً صاغية، وإيديولوجيات سيّست الاختلاف الطبيعي، فجعلت منه خلافاً ثم تمزقاً، وفي النفوس قبل الأرض. واليوم، يتصارع أبناء التاريخ الواحد صراع فناء، شعاره إما أنا أو أنت، مع أنه كان بالإمكان أن يكون الوضع مختلفاً، ولكن هذا ما حدث ولا سلطة لنا عليه، بقدر ما نستفيد من درسه، فلا تُعاد الأخطاء، ونلدغ من ذات الجحر مرتين.

نعم، قد يكون هناك ضيم لهذه الفئة الاجتماعية أو تلك، حين تكون من الأقليات في دولة متعددة الأعراق والطوائف، ولكن ذلك مهما طال فلا يمكن أن يدوم، ويعود التفاعل بين مختلف الفرقاء، في ظل المواطنة الواحدة، مما يثري الجميع في النهاية، ولعل في التاريخ الأميركي أفضل مثال على ذلك. فقد مر حين من الدهر، لم يكن فيه للفئات غير الأوروبية من الأميركيين، وخاصة أحفاد الرقيق من ذوي الأصول الأفريقية، أي قيمة اجتماعية، بل وكان يُنظر إليهم على أنهم من الأعراق الدنيا في سلم الأعراق، الذي يعتليه الأبيض الأوروبي، وخاصة الأنجلوساكسوني البروتستانتي. في ذلك الوقت، ظهرت دعوات بإقامة دولة للسود في أميركا، حتى لو كان ذلك عن طريق العنف والثورة الشاملة، ولعل من أبرز هؤلاء الدعاة في وقتهم كان مالكوم إكس، وستوكلي كارمايكل، ولويس فارخان، ولكن العقلاء منهم وقفوا بالمرصاد لمثل هذه الدعوات، وخاصة مارتن لوثر كينغ، واليوم ها هو أفريقي أسود يستعد لولوج البيت الأبيض، بعد أن كان مشكوكاً في إنسانيته جملة وتفصيلاً. لم يتخل الأفريقي الأميركي عن هويته الخاصة، ولكنها بقيت هوية فرعية ضمن هويات، في ظل هوية وطنية عامة يشترك فيها الجميع. لو أن دعوات الانفصال عن الكيان الأميركي الواحد تحققت، لكان لدينا اليوم دولتان أميركيتان، أحداهما بيضاء، والأخرى سوداء، كما كان يمكن أن يكون الوضع لو انتصر الجنوب على الشمال في الحرب الأهلية، وكل طرف يناصب الطرف الآخر العداء، كما في حالة الهند وباكستان، فالتاريخ يعلمنا أن أبناء الكيان الواحد حين ينفصلون، فإن عداوتهم لبعضهم البعض تفوق أي عداء آخر.

ان تكون جزءاً من دولة متعددة الفئات، وليس هناك دولة صافية العرق أو العقيدة أو الثقافة أو اللون على أية حال، يعني أن تتأثر وتؤثر في النهاية، مما يعني إثراء للهوية الخاصة، وهو ما يمكن أن نلاحظه حين المقارنة مثلاً بين المسلم الهندي والمسلم الباكستاني، فالأول، ونتيجة تعايشه مع فئات اجتماعية وثقافية أخرى، في ظل مجتمع متسامح، أصبح مختلفاً عن الثاني في توجهاته ومواقفه وسلوكياته، من دون أن يتخلى عن هويته الخاصة، فيما بقي الثاني أسيراً لإيديولوجيات تُغلق أبواب الهوية على مفهوم واحد، واتجاه واحد، وتعريف واحد، فبقيت هويته ساكنة سكون البرك المغلقة، فيما تحولت هوية أخيه ـ عدوه إلى نهر من الماء الجاري، مع أن المفروض أن تكون الهوية واحدة. قيام دولة مستقلة تمام الاستقلال لهذه الأقلية أو تلك، وخاصة عندما تكون مختلفة عن محيطها كما في حالة كوسوفو ومحيطها الأوروبي، أو حتى إسرائيل ومحيطها العربي، ومن دون مبرر قوي، يعني زرع البغضاء، وجدل خيوط العنف. فالدولة الجديدة تكون منتشية باستقلالها، وتريد أن تثبت ذاتها وهويتها أمام الدولة الأم، فيما الدولة الأم تشعر بالمرارة، وهو الشعور الذي يغذي جذور البغضاء، وما يتضمنه من عنف دفين. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن فتح باب الاستقلال التام للأقليات المسلمة في العالم، مهما كانت نسبتها، يعني أن على المسلمين أيضاً أن يتقبلوا ذات المبدأ على أنفسهم، طالما أنهم قبلوه ضد غيرهم. فلن يكون منطقياً مثلاً أن يُطالب الأمازيغ بدولة مستقلة عن المغرب والجزائر، أو أن يُطالب الأكراد بدولة مستقلة عن العراق وإيران وتركيا وسوريا، ويُرفض طلبهم أو يُقمع، طالما كان المبدأ مقبولاً حين تكون أوروبا أو غيرها محل الفعل. فتح مثل هذا الباب هو فتح لأبواب جهنم في ظني، وبالنسبة للمسلمين بالذات، فإنه سينقلب عليهم، فيما لو قبلوه حين يكون الغير هو المعني بالأمر، وهم يظنون أنهم هم المستفيدون، فيما يرفضونه حين يكونون هم محل الفعل، وهنا تكمن المشكلة.. كل المشكلة..