أما آن أوان الحسم في السياسة العربية؟

TT

كما أن الطبيعة لا تحتمل الفراغ، كذلك فإن السياسة لا تحتمل المواقف المعلقة. السياسة موقف وقرار وحسم، وسواء كان صائبا أو خاطئا، مرضيا أو مثيرا للغضب، فإنه موقف وقرار وحسم لا بد منه.

والسياسي أيضا لا يستطيع إلا أن يقول، فإذا واجه وضعا، مهما كان نوعه، عليه أن يبادر إلى إعلان الحل الذي يرتئيه، وعليه مهما كان الوضع معقدا، أو مهما كان الظلام مخيما، أن يبتكر، أن يبتكر الحلول، وأن لا يستسلم لليأس، وإلا لما كان رجل سياسة.

ولكن هذه القواعد البديهية المعروفة في عالم السياسة والسياسيين لم تعد أمرا مسلما به في السياسة العربية، وحلت محلها قواعد جديدة، أساسها المواقف المعلقة، وتأخير الحسم، والانتظار الطويل بدل اتخاذ القرار. نشهد ذلك الآن من حولنا بكثافة في مناقشات جامعة الدول العربية التي انتهت قبل أيام، وفي الجدل الدائر حول القمة العربية، تنعقد أو لا تنعقد، وفي جدل انتخابات الرئاسة في لبنان، تتم أو لا تتم، وفي التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يتواصل أم يتوقف.

والمسألة هنا ليست تحبيذا أو لوما، إنما هي توصيف لحالة نمر بها فرادى ومجتمعين، تضع الحياة السياسية العربية كلها في مرحلة «التعليق»، فلا هي تقطع ولا هي تصل، ولا هي تتوقف ولا هي تمضي إلى الأمام. وفي إطار هذا التوصيف لا نستطيع أن نصف الوضع إلا بأنه خطير. ليس خطيرا بسبب ما نواجهه من قضايا جوهرية، بل خطير لأن الحسم لا يتم، لا بهذا الاتجاه ولا بذاك. وغياب الحسم هذا هو أخطر ما يمكن للسياسة أن تتعرض له، وأخطر ما يمكن للسياسي أن يواجهه.

لنأخذ مثلا من مناقشات الجامعة العربية.. لقد توقف الوزراء والقادة أمام مسألة جوهرية وهامة تتعلق بمبادرة السلام العربية. لقد رفضت إسرائيل هذه المبادرة عند الإعلان عنها، وتعاملت معها على مضض في مرحلة لاحقة، وقالت إنها تقبلها من حيث المبدأ، ولكنها تريد فقط تغيير كل بنودها بالكامل، بينما هي تواصل نسفها على أرض الواقع من خلال عدوانها الدموي المتصل على الشعب الفلسطيني، ومن خلال استعدادها المتواصل لحرب لا يعرف أحد أين ستندلع، في فلسطين أم في لبنان أم في سوريا أم في ايران؟. وما كان من الوزراء والقادة في جامعة الدول العربية إلا أن يتوقفوا أمام هذه المماطلات الإسرائيلية ليعلنوا أن المبادرة لا يمكن أن تبقى معروضة إلى الأبد إذا لم تتجاوب إسرائيل معها، ملمحين إلى أن المبادرة يمكن أن تسحب من على الطاولة، وملمحين أيضا إلى ما هو أخطر، وهو أن سحب المبادرة يمكن أن يعيد المنطقة إلى أجواء المواجهة العربية ـ الإسرائيلية. ولكننا بالمقابل نستطيع أن نسأل هل تم سحب المبادرة ؟ الجواب هو طبعا لا. وهكذا أصبحنا أمام وضع سياسي «معلق»، تجاه وضع استراتيجي خطير، فلا نحن موقنون بأن إسرائيل ستقبل المبادرة، ولا نحن جاهزون بعد لسحبها من على الطاولة.

لنأخذ مثلا آخر يتعلق بالقمة العربية.. إن قرار انعقاد قمة عربية دورية كل عام هو قرار عربي جماعي، وليس قرارا يخص هذه الدولة أو تلك، ولكن الظروف المحيطة بالقمة، من التوتر السعودي ـ السوري، إلى ارتباط ذلك بأزمة انتخابات الرئيس اللبناني، إلى التساؤلات الخفية والمعلنة حول ايران وسياستها العربية، كل ذلك أحاط القمة بأسئلة كثيرة، هل تنعقد أم لا تنعقد؟ هل تنعقد في دمشق أم في مكان آخر؟ هل تسبقها قمم مصغرة أم يتم الذهاب إليها مباشرة؟ وحين تم حسم أمر هذه القضايا كلها في مداولات الجامعة العربية، قيل إن القمة ستنعقد حتما، وستنعقد في مكانها المحدد في دمشق، ولكن مسألة التمثيل بقيت فيها معلقة، بحيث بتنا أمام قمة ستنعقد، ولكننا لا ندري إذا كانت ستتخذ قرارات ملزمة أم لا. وهو أمر يبقي قضية القمة معلقة سياسيا حتى لو انعقدت، فقد تنعقد ولكن يغيب عنها الإجماع السياسي، وقد يتوفر الإجماع ولكنه يبقى دائرا في إطار العموميات، ومن دون أن ينفذ إلى الجوهر.

وثمة أمثلة أخرى فردية وليست جماعية.. إذ على دوي الغارات الإسرائيلية، وعلى هدير الدبابات التي هاجمت قطاع غزة، أعلن الرئيس محمود عباس «تعليق» المفاوضات مع إسرائيل، وفهم هذا التعليق على أنه درجة من درجات الاحتجاج على القتل الإسرائيلي للمدنيين والأطفال. ولكن هذا الموقف الخجول (التعليق) لم يرض وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس، فجاءت فورا إلى المنطقة، وأعلنت منذ لحظة وصولها إلى القاهرة أن الفلسطينيين هم المعتدون، وأن المفاوضات يجب أن تستمر، ثم صاغت موقفها هذا بشكل تهديدي، وقالت بصراحة إن الصواريخ الفلسطينية يجب أن تتوقف، وأن على الرئيس الفلسطيني أن يدرك أن الوقت يمضي، وأنه لا يوجد وقت كاف لإنجاز التسوية (في نهاية العام 2008) إذا هو واصل تعليقها بين وقت وآخر. لم تتحدث رايس، ولو بكلمة واحدة، عن «الاحتلال» الإسرائيلي، بل أشارت بخجل إلى قتل المدنيين والأطفال، قائلة بحنان إن على إسرائيل أن تراعي إصابات المدنيين أثناء دفاعها عن نفسها. وأمام هذا كله ظهرت التصريحات الفلسطينية التي تمهد للعودة إلى المفاوضات انسجاما مع التهديدات الأميركية، وأصبحنا هكذا أمام وضع سياسي فلسطيني «معلق»، فلا نحن منخرطون في المفاوضات كما تتمنى رايس، ولا نحن مبتعدون عنها كما يريد الرئيس عباس. والمواقف السياسية المعلقة هي أخطر ما يمكن أن تواجهه السياسة، وهي أخطر ما يمكن أن يواجهه السياسي.

لو أن الأمور تسير سلميا نحو الحسم والإنجاز لأصبحت السياسة العربية بألف خير. ولو أن الأمور تسير نحو القطيعة والاستعداد للمواجهة مع إسرائيل لأصبحت السياسة العربية بألف خير، أما هذه الحالة المعلقة، حيث لا السلام يسير نحو هدفه، ولا المواجهة تسير نحو هدفها، فإن المنطقة كلها تدخل في حالة من التوتر.

نقول كل هذا لنصل إلى نتيجة محددة وهي أن السياسة العربية لم تعد قادرة على تحمل هذا الوضع المتأرجح، وهو أمر يستدعي ضرورة العمل من أجل الوصول بالسياسة العربية إلى مرحلة الحسم، وهو حسم له ما يبرره، بعد أن جربنا كل ما هو ممكن مع السياسة الأميركية ولم نجن سوى الانحياز الأميركي لإسرائيل. وبعد أن جربنا كل ما هو ممكن في التفاوض مع إسرائيل ولم نجن سوى المماطلة والمستوطنات والعمل اليومي الدؤوب للسيطرة على مدينة القدس.

ولا بد أن نسجل هنا أن الحسم في القضايا الكبرى ينعكس مباشرة على القضايا الأصغر. الحسم في التعامل مع السياسة الأميركية، والحسم في التعامل مع المماطلة الإسرائيلية، ينعكسان تلقائيا على لبنان، وعلى القمة العربية، وعلى العلاقات مع جيراننا في ايران وتركيا.

إن العيون مشدودة نحو تلميح توصيات الجامعة العربية، بأن مبادرة السلام العربية لا يمكن أن تبقى طويلا على الطاولة في مواجهة الرفض الإسرائيلي لها. والأمل معقود على موقف تال يعلن أن الرفض الإسرائيلي للمبادرة يلغي مبرر وجودها، فتنتهي بذلك حالة المواقف السياسية المعلقة، ويعرف الجميع أن الكيل قد طفح لدى العرب، لدى العرب جميعا، وأن لذلك نتائجه الكبيرة.