الوحدة الثقافية

TT

لم يبق ما يحتفل به في العالم العربي سوى الثقافة والتراث. الباقي خلافات ونزاعات، عبر الحدود، وداخلها، وتظل الثقافة هي الهوية المتفق عليها، برغم أن حروب المثقفين أشرس من حروب السياسيين. وفي ذروة هذا الوغى السياسي لا يعود ممكنا أن يكون «المهرجان» إلا ثقافيا. «باب الحارة» أعاد سورية بلا أي اعتراض إلى لبنان، وفيروز أعادت لبنان مغنى إلى دمشق، دون إذن مسبق من العميد رستم غزالة، خروج أو عودة.

جائزة الشيخ زايد هذا العام جمعت المغرب بالمشرق. سي محمد بن عيسى، أحد رموز الحركة الثقافية العربية، وكاتبة أدب أطفال من فلسطين، ومهرجان القاهرة الثقافي، ومهرجان الكويت، وجائزة دبي للصحافة والكتَّاب، وثقافة ثقافة في كل مكان. وليس بينها «مربد» واحد، حيث للمهرجان شعار واحد هو سيادة الرئيس ومنظم واحد هو دائرة المخابرات في وزارة الثقافة. وما زلت أذكر مرتعدا أن أحد المفوضين الثقافيين أصدر مرسوما عين نفسه بموجبه مترجما لأرتور رامبو، الذي قال هنري ميللر ذات يوم إنه عجز عن ترجمة مقطوعة واحدة له بعدما أمضى عقدا على رفوف المكتبات في باريس. وعندما استسلم أعلن أن رامبو كتب من أجل أن يقرأ لا من أجل أن يترجم.

تراوحت «الجنادرية» في السنين الماضية بين تقديم صور التراث وبين استضافة وجوه التعارف بين الإسلام والغرب، لكنها تميزت، أو اختلفت، عن بقية النشاطات في الخليج، بأنها اكتفت بتقديم صور عن البادية وفروسية الصحراء. ولا يزال من أبهى فصولها وقوف الشاعر الشعبي خلف بن هذال العتيبي بثيابه العسكرية، أمام الملك عبد الله بن عبد العزيز، يلقي ملحمة نبطية مطولة يقدم فيها تأمله لحال العرب. وقد لا يفهم جميع الحضور كل ما يلقي أبو هذال، لكن الجميع يصفقون في النهاية للذاكرة البدوية التي تردد مئات الأبيات في حماسيات مدوية.

يحضر هذا العام أكثر من أي مرة مضت أبو الجنادرية وحارس معانيها، الشيخ عبد العزيز التويجري، الذي كان حضوره يملأ المهرجان، والآن يملؤه غيابه. وتكرم «الجنادرية» ذكراه باستعادة مسيرته الطويلة في بدايات البادية وفي ذروة الحضر. ولا يعرف كثيرون الإرث السياسي الذي تركه الرجل، لكن الإرث الثقافي الذي خلَّفه، كاتبا ومؤرخا وشاهدا على نشوء المملكة، يشكل قيمة خاصة في المكتبة العربية. وأما الذين عرفوه عن قرب، فقد عرفوا فيه أيضا فارسا من فرسان التواضع والصداقة.