دبلوماسية منزوعة الدسم!

TT

واهم من يظن أن دبلوماسية عمرو موسى ستحل الأزمة في لبنان. فليست هناك في العالم دبلوماسية ناجحة من دون قوة تدعمها وتؤيدها. ترى ما هي عناصر القوة التي يرتكز عليها عمرو موسى في زياراته المتكررة إلى لبنان؟ إن ما لا يمكن نكرانه هو أن الرجل يروح ويجيء دونما أي قوة تقف خلف كل مبادراته ومناوراته سوى ما يمكن تسميته بقوة «التخجيل»، (shame politics). الدبلوماسية هو أن تكون لدى المفاوض أوراق ترغيب وترهيب، كما رأينا في مفاوضات وزير الخارجية العراقي في عهد صدام حسين، طارق عزيز مع وزير الخارجية الأميركي السابق جيمس بيكر قبل حرب تحرير الكويت، وكما رأيناها بين المفاوضين البريطانيين والايرلنديين. الدبلوماسي دونما قوة تسنده هو رجل علاقات عامة لا يأخذه أحد مأخذ الجد. أزمة لبنان تحتاج الى دبلوماسية مسنودة بقوة.

عمرو موسى ليس بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، الذي يقف خلفه مجلس أمن قوي يستطيع أن يتخذ قرارات حرب وسلم، ولديه قوات حفظ سلام، ويستطيع أن يفرض عقوبات، كما فعل منذ أيام تجاه إيران. رغم كل هذا ينظر الى الأمم المتحدة على أنها مؤسسة ضعيفة، وهناك من يطالب بتغيير هيكليتها لأنها غير مناسبة لظروف ما بعد الحرب العالمية الثانية. عمرو موسى ليس لديه أي من هذه الامكانات ولا جامعة الدول العربية مكان لحل المشاكل الكبرى. الجامعة العربية منذ نشأتها عام 1945، هي مجرد ناد للقاءات وتنسيق المواقف. لا أذكر، أو لا أحد في جيلي يتذكر، دورا ذا بال بالنسبة للجامعة العربية.. المشهد الوحيد الذي نذكره هو، مشهد الأطباق الطائرة في قاعة الجامعة العربية، يوم عقدت القمة على اثر احتلال صدام للكويت عام 1990.

القضايا الشائكة مثل لبنان، تحتاج إلى تحالفات ثنائية ورباعية تساندها القوة الكاملة القادرة على الحل. حتى هذه اللحظة لم يصل الموقفان العربي والغربي إلى أي درجة من الجدية ترغم الطوائف اللبنانية على حل المشكلة. ويبدو أن اللبنانيين سعداء بأنهم مركز اهتمام العالم، البعض منهم لا يريد سوى هذا الدور، ففي عدم حل المشكلة بقاء للبنان وطوائفه تحت الأضواء. عرف العالم نبيه بري وحسن نصر الله والسنيورة وجنبلاط، نجوم الأزمة. لبنان مهم طالما هناك «ناس رايحه وناس جايه»، وزيارات عمرو موسى المتكررة هي ضمن استراتيجية تسليط الاضواء، فعندما يزور موسى لبنان يجرجر معه كاميرات وتلفزيونات و«الذي منه». حل معضلة لبنان هو في الدبلوماسية «الخشنة» التي تقف وراءها قوة حقيقية. فوضى لبنان المدمرة بعد الحرب الأهلية لم تحلها أروقة الجامعة العربية، بل حلها السعوديون في الطائف.

فلا داعي لأن يعطى الأمين العام للجامعة العربية انطباعا خادعا بأن دوره مهم وأنه قادر على الحل، تحركات موسى الكثيرة، في غياب قوة وراءها، أصبحت جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل.

عامل مهم آخر وراء بقاء المشاكل عالقة في منطقتنا، هو أن السياسة العربية لم تبلغ من النضج درجة تسمح بالمصارحة وبالمواجهة. لدينا اليوم خلاف سعودي سوري، وخلاف سوري مصري، وتنسيق سعودي مصري أردني تخيم عليه الشكوك. المطلوب، وبكل وضوح، أن يتحدث المصريون والسعوديون مع سورية بصراحة، إن كانت سورية هي التي تتحكم في رقبة لبنان. وإن كان بتقديري، أن سورية ليست هي اللاعب الأساسي في المعادلة اللبنانية اليوم، فإيران لها الدور الأقوى من خلال «حزب الله».

الأمريكان أيضا لا يواجهون إيران بالحقيقة، فهم يقيمون حوارا مع الإيرانيين حول العراق و«يحسسون» عليهم في موضوع لبنان. وهكذا أيضا حال العرب، فها هو وزير الخارجية الإيراني يتنقل بين الدول العربية، وأحمدي نجاد كل يوم في زيارة لعاصمة عربية، فهل حل بعد كل هذا (الود) موضوع لبنان الذي بلا شك تمسك إيران بأهم أوراقه؟

العالم العربي ما بعد تحرير الكويت كان يعول على المثلث المصري السوري السعودي. وبالفعل كان هناك مثلث يمكن الاعتماد عليه. أما الآن فنحن نتحدث عن الثنائي وعن التنسيق المصري السعودي. بصراحة لو أن هناك تنسيقا بالفعل لكان تحالفا فريدا. مصر لديها القوة البشرية والثقل الدبلوماسي والجيوش، والسعودية لديها إمكانيات مالية هائلة ومكانة روحية بالغة الأهمية. الجمع بين مصر والسعودية في تحالف جاد يقلب الموازين في المنطقة. ولكن للأسف كلما اقترب السعوديون والمصريون كلما سيطر عليهم وسواس الدور. تتبنى السعودية اتفاق مكة فتصرخ الصحف المصرية معلنة أن دور مصر لن يتآكل، ويكتب سعودي في صحيفة «الاتحاد» عن تراجع الدور المصري الخ... النقطة هنا هي أنه على الجانبين المصري والسعودي تنظيف هذه الدمامل وتطهيرها قبل الحديث عن تنسيق سعودي مصري في القضايا الكبرى. علاقات يوترها حادث سير في القاهرة أو حادثة تحدث لمصري في الرياض، بالتأكيد هي ليست علاقات بريطانيا بأميركا.

أما السوريون فهم قصة أخرى. فالذي يعرف طبيعة العلاقات العربية العربية يكون متأكدا من أن سورية ستعود لتكون ضلعا في المثلث المصري السعودي وأن علاقتها بإيران ليست دائمة. لكن السؤال هو متى ستحتاج كل من مصر والسعودية لسورية ومتى سيحتاج السوريون لمصر والسعودية؟ إذا ما التئم الشمل بعد عامين أو ثلاثة، أقولها بصراحة سيكون التئاما لا معنى له. الفرصة الدولية الكبرى هي اليوم، فهناك عرض على الطاولة بحل القضية الفلسطينية نهائيا، وهناك عرض يخص الجولان. هذان العرضان ربما لن يعودا إلا بعد سبع سنوات أخرى بعد أن يتعلم الرئيس الأميركي الجديد أن قضية الشرق الأوسط قضية مهمة.

قمة دمشق يجب أن تعقد في موعدها، ولا بد للقادة العرب أن يواجهوا بعضهم البعض في دمشق. القمة فرصة لإنهاء حالة التردي القائمة. كما أن احترام مواعيد وأماكن عقد القمم هو ما يكسب العمل العربي المشترك، المصداقية المؤسساتية. الحركة الدبلوماسية من أجل الحركة وحدها لا تكفي. فليس في الحركة بركة دائما. وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، يوزع الدعوات للقمة وهو يعرف عمق الخلافات وعمق الرفض، وعمرو موسى يوزع الآمال أمام الشاشات، وهو يعرف أن الحل صعب المنال. العرب اليوم في أزمة ولا داعي للمواربة في القول. أزمة لا يملك حلها أو حلحلتها لا موسى، ولا المعلم.

الرسالة للعرب اليوم، إن لم تواجهوا حقيقة الخلافات، وتتحدثوا دونما خجل عن الباطن لا الظاهر من أسباب هذه الخلافات، فلا داعي للانشغال بعد ذلك بشعارات التنسيق العربي الزائف، ولا داعي للوم أي دولة عربية تتصرف حسب مصالحها الوطنية الضيقة.