عندما مات مشعل

TT

حدثني أحدهم يذكر انه عندما كان طالباً جامعياً في إحدى الدول الأوربية منتصف الستينات، كان لديهم (بروفيسور) عبقري، ولكنه غريب الأطوار، وقد أكد لهم يوماً انه سبق له أن (مات)، وهو لا يود الموت الآن، غير انه لا يخشى الموت لأنه يعرف جيداً أين سيذهب، فقد سبق له أن كان هناك. ولدى الدكتورة (إليزابيث كوبلر) كتاب عنوانه: (في الموت والنزاع)، وأوردت فيه عدّة حالات لأشخاص ادعّوا أنهم ماتوا، ثم عادوا مرة أخرى. ومنها رجل كان في المستشفى وحالته خطرة جداً، وجد نفسه مقترباً من حاجز يبدو انه الحد الفاصل بين الحياة والموت، ثم سمع من حوله يعلنون وفاته، وشعر بأنه يود العودة للحياة، وأن ساعة وفاته لم تحن بعد، ولم يلبث أن رأى آخرين يهبون لنجدته ويلمح أرواح أقارب وأصدقاء له سبق أن ماتوا، وفجأة غمره شعور بالغبطة والمحبة والسلام، إلى درجة انه استطاب ما هو فيه وأخذ يقاوم ولا يريد العودة للحياة مرة أخرى، غير أن الأطباء أنقذوه وشفي، وبدلاً من أن يفرح أصيب بكآبة، وبعد شهر واحد انتحر.

وهناك امرأة كانت تلد ولادة عسيرة نزفت خلالها دماء كثيرة وتقول: سمعت الطبيب يعلن وفاتي لأقاربي، ثم ينفض يده ويبتعد عني، ودخلت في غيبوبة تميزت بحضور حشود من الناس يحومون حول سقف الغرفة، كان أغلبهم أناسا أعرفهم، لكنهم ماتوا قبلي، كانت بينهم جدتي وواحدة من زميلات الدراسة، وبدوا كلهم مسرورين بقدومي وإنهم حضروا لحمايتي وإرشادي، والحق إنها كانت لحظات مفعمة بالسعادة، وكأنني كنت أزف إلى أجمل الأماكن، وإنني من بعدها والى اليوم انتظر وفاتي على أحر من الجمر.

من ناحيتي طبعاً لا آخذ هذه الشواهد كمسلمات، بقدر ما هي أوهام حدثت بسبب اختلال عقل أو نفسية المريض، إما نتيجة الإجهاد الجسدي أو نقص الأوكسجين، أو تفاعل بعض الأدوية والعقاقير.

وما هي في النهاية غير (أضغاث أمراض)، أو (أضغاث أحلام) مثلما حصل لي عندما كنت قاب قوسين أو أدنى من أن انتقل إلى رحمة الله تعالى. فقبل عدة أيام حلمت بأنني مت (والعياذ بالله، وبرا وبعيد، وإن شاء الله الكلب الأسود ولا أنا)، المهم أنني شاهدت في ما يرى النائم جثتي ممددة، وأنا واقف أمامها أبكي وألطم على (وفاتي)، وإذا برجل يأتي على أصوات ندبي وصراخي، وأخذ ينهرني قائلاً: اذكر الله، اذكر الله، ألا تعلم أن الصياح على الميت بهذه الطريقة الصبيانية مكروه؟! اسكت، اسكت، اهدأ، اهدأ، وكلما أمرني بذلك ازددت لطماً على خدودي ونطنطة، فما كان منه إلاّ أن يمسكني من كتفي ويسندني على الحائط بكل قوة وهو يهددني بأوخم العواقب إذا لم أغلق فمي (وأخرس) ـ على حد تعبيره ـ عندها خرست من شدة الخوف، وسألني: من الميت؟! فقلت له وأنا أكفكف دموعي: إنه مشعل، فقال: ما غيره الذي يكتب في «الشرق الأوسط» ؟! أجبته وأنا أجهش ببكاء مكتوم: نعم، نعم إنه هو.

قال: (أتركك) منّه، هذا ما يسوى ولا (تبن)، ولا حتى الدمعة التي تذرفها عليه، ففيه (كذا وكذا وكذا)، وفعل (كذا وكذا وكذا)، وأخذ يعدد مثالب وذنوب وترهات وسقطات مشعل، ولم يترك (شاردة ولا واردة) من الشتائم والاتهامات إلاّ وألصقها به.. ثم ربت على ظهري وقال لي: أنصحك اهتم بنفسك ولا تبكي على (سقط المتاع)، والآن اذهب واغسل وجهك، وافقت على ذلك، وما كدت أذهب حتى وجدت نفسي نازلاً من سريري، وواقفاً على أقدامي، وفركت عينيّ ورفعت اللحاف باحثاً عن جثتي، فلم أشاهد غير مجموعة من الأحلام الصغيرة تتقافز على السرير كالبهلوانات.

وهكذا عدت للحياة بخيري وشري ـ هذا إذا كان هناك خير ـ والحمد لله على العفو والعافية والفحولة.

[email protected]