أرض المعاهدات والحرائق

TT

عندما يختلي الصحفي إلى نفسه ليعدد ماذا كتب وماذا لم يكتب يفاجأ دائما بأن ما أراد ان يكتبه يفوق ما استطاع أن يؤلفه. لا أعرف عدد الكتب التي كنت أحلم بوضعها ولم افعل. إما بالقصور وإما بالكسل وإما بالوقت، الذي نعتقد انه وقتنا، فاذا هو وقت الوقت والوقت جله ضياع.

عندما كنت أمر بالمدن أجد أن كل اسم يعني شيئا ما، في تاريخ المنطقة. من سيفر الى فرساي ومن فرساي الى باريس، معاهدات وقعت من أجل سلام المنطقة أو حروبها، وكان يخطر لي ان أعود الى تلك المدن، واحدة واحدة، لكي أعيد جمع وتوثيق المعاهدات التي لم يعد لها معنى. حدث كل ذلك قبل ان تصبح الأمم المتحدة وجمعيتها العامة ومجلس الأمن، هي المكان الذي توقع فيه المعاهدات وتتخذ فيه القرارات التي تفقد مفعولها قبل صدورها. سمى سعد زغلول حزبه «الوفد» عام 1919 لكي يذهب به الى مؤتمر فرساي أوائل القرن الماضي، معتقدا ان المؤتمر سوف يحمل نهاية الآلام لمصر والعالم العربي. وجاء الى المؤتمر الأمير فيصل الهاشمي، يقدمه «لورنس العرب»، الذي ـ على نحو ما ـ كان «محرك» الثورة العربية!

يا لها من منطقة قامت فيها الامبراطوريات وفيها تفككت، ودائما كنا ندفع الثمن، مرة للسير سايكس ومرة للمسيو بيكو.

في الحروب الساخنة أو الحروب الباردة دفعنا الثمن في فلسطين، أو بسببها. لأننا كنا دونها عسكريا ودونها سياسيا ودونها صدقا والتزاما. في البداية تركناها للاذاعات والآن سلمناها نهائيا للفضائيات. ونحن سعداء في خدر الكلام وعلو الاصوات. والأصوات العالية تسمعها فقط رؤوس الأشجار.

لنا في كل مدينة صغيرة وكبيرة في أوروبا معاهدة وحكاية. وجميعها من نوع «حكاية ابريق الزيت». واذا تطلعنا الى الوراء واستعدنا المعاهدات وعددنا الرجال الذين وقعوها لم نجد وصفا لهم سوى انهم خونة. لم نعرف كيف نطبق اتفاقا ولا كيف نطالب بتطبيقه. وكل معاهدة «سلام» ادت بنا الى نوعين من الحروب: داخلية وخارجية. وأحيانا أهلية.

وثمة سر لم يدرك كنهه أحد بعد: لماذا تدور في لبنان، من دون كل الدول، جميع الحروب الاهلية وجميع الحروب القومية وجميع الحروب الاقليمية. ولماذا توقع جميع الاتفاقات والمعاهدات بين الدول والمتحاربين ولا يستطيع اللبنانيون ان يوقعوا شيئا فيما بينهم؟ وكنا نعتقد ان «اتفاق الطائف» هو الحل الأخير لحروب لبنان فاذا هناك من يريد أن يجعله مبعث الحرب لالغاء كل الحروب.