كم يبلغ اليوم طولهم؟!

TT

شيء لا يوصف ـ أو هو يوصف ولكني لم اجد كلاماً يصلح لوصف هذا الذي وقع على حدودنا: ثورة غضب. ثورة جياع.. تدفق بركان. صدى زلزال. شيء واحد لا يجرؤ عليه أحد: أن ينظر في عيون هؤلاء الفلسطينيين. كيف في الدنيا ظلم وقهر وكيف تتحول الأجسام إلى أذرع وأكف. كيف؟ كيف تحتضن الأم ولدها حتى لا يموت في يدها..إنها تشبه القطة وأمهات حيوانات كثيرة تحمل صغارها بين أنيابها ولا يصيبه مكروه. إنها الغريزة التي جعلت الأمهات تحمي صغارها في أقسى الظروف..

كيف تحطم الصخور والقوائم الحديدية بالأيدي التي تحمل أوعية فارغة وأطفالا جياعا. ثم شيء غريب: في أي ظروف ارتدى هؤلاء الناس ملابس نظيفة وبدلا وكرافتات. كأنهم خيروا أنفسهم بين أن يكون الواحد جائعاً أو نظيفاً فاختاروا النظافة. ولم يكسر الجوع ظهورهم، ولا حطم الظلم كبرياءهم فالجوع كافر والخوف كافر والقهر كافر ولم يكفروا بأحلامهم وآمالهم وإيمانهم المطلق بالنصر ـ مهما طال الزمن!

ولا أعرف ما هي الألوان التي استخدمها لو كنت رساماً. لا بد أنها من اللون الأسود وبدرجات مختلفة. أسود قاتم وأسود فاتح ورمادي ثم بقعة واحدة أو بؤرة واحدة بيضاء. هي الشمعة في نهاية النفق أو هي الأمل أو هي مجموعة لما لا نهاية له من شعاعات الأمل صارت مساحة صغيرة من النور.. ليست واقعاً، وإنما احلام أو أوهام ولكنها موجودة تتطلع إليها العيون والقلوب والعقول..

ولا أعرف لو كنت موسيقياً ما هي مقامات الحزن ودرجات السلم الموسيقي. لا بد أن لها صوت النواح والعويل والنار والشرار.

وقد رأيت رفح مرتين مرة قبل النكسة ومرة أخرى بعد النصر. وكان الفارق هائلا. كنت اندهش كيف اعتقدت وقتا طويلا أن أبناء فلسطين طوال القامة وجوههم وشعورهم سوداء.. وظللت أعتقد ان نساءهن لا يظهرن في الشوارع. شيء غريب. ولكن عرفت فيما بعد أن هذه الصورة ليست من الواقع وإنما من خيالي وإحساسي بقاماتهم العالية. حتى خيل لي أنهم جميعاً من الرجال. أو أن نساءهم مثل رجالهم عمالقة أيضاً.. يزيدون شبراً كل عام.. فكم يبلغ اليوم طولهم بعد خمسين عاماً ؟!