جريمة من؟

TT

أسخف ما سمعت هذا الاسبوع هو خبر عن امرأة طلبت الخلع من زوجها لأنه يقرأ كثيرا. وقد ذكرتني سخافة تلك المرأة برجل قال لزوجته وهي تملأ صناديق بالكتب التي جمعتها عبر السنين واعتبرتها اثمن ما لديها استعدادا للانتقال من بيت الى آخر، قال لها بضيق: اهتمي اولا بنقل الاشياء الضرورية. اتركي هذه الكتب واشتري كتبا جديدة ان لزم الامر.

تذكرت هذه وذاك حين قرأت عرضا لكتاب نشر في فرنسا عن حوادث تاريخية تختص بحرق الكتب. ويقول الناقد في تقديمه للكتاب ان الكتب تثقف الناس وان المثقفين يطرحون اسئلة محرجة على الحكام. ولذلك خلص الحكام عبر العصور على انه من الصعب على الحاكم ان يحكم اذا سمح للمحكومين بقراءة الكتب، وانه من الافضل ان يطوي النسيان ثقافة الماضي والافكار المؤثرة وان ينصب اهتمام الشعوب على احلام اليوتوبيا في المستقبل.

ويطرح مؤلف الكتاب نظرية تقول بأن اعدام المعلومات بدأ قبل الميلاد بآلاف السنين. ولعل حريق مكتبة الاسكندرية على يد القيصر في عام 48 قبل الميلاد هو الحدث التاريخي الذي يروي لنا بصراحة خوف القياصرة من الكتب. فقد اعتبر اغسطس قيصر ان كتب العدو والافكار التي تحملها هي بالفعل اعداء يجب القضاء عليها.

ويستمر المؤلف لوسيان بولاسترون في سرد تاريخي لما حل بالكتب عبر الازمنة وصولا الى حرائق بغداد بعد الغزو الحالي.

ففي عام 2003 اشعلت النيران في المكتبة الوطنية فاحترقت آلاف الكتب والوثائق التي سجلت تاريخ العراق منذ كان جزءا من الامبراطورية العثمانية كما احترقت احدى اقدم نسخ القرآن الكريم.

اعدام الكتب كان وما زال تعبيرا عن خوف من عدو مجهول لا يمكن القضاء عليه بسهولة. فالكتب تحرق ولكن الدخان ينتشر ويحمل الكلمات والمعاني في الفضاء الى أبعد مدى. والدليل على ذلك ان محاكم التفتيش في اسبانيا احرقت ما احرقت وقتلت من قتلت وطردت من طردت من الاندلس ورغم ذلك استمر الاثر العربي على وجه الثقافة الاسبانية كالوشم لا يزول مهما طال الزمن.

وكذلك وفي عام 1992 ابان الحرب الاهلية في البوسنة اشعلت القوات الصربية النيران في مكتبة سراييفو فاحترقت مجموعة نادرة من المخطوطات الاسلامية ولكن الحرائق لم تقض لا على التاريخ ولا على الروح البوسنية.

التاريخ طولا وعرضا يروي احداث حرق الكتب من المانيا النازية الى امريكا المكارثية. وحيث تحرق الكتب ينتهي الامر بحرق الناس ايضا والكلام للشاعر الالماني هنريك هايني.

فما هي الجريمة الكبرى حقا؟ ان تحرق الكتب ويصادر حق الناس في القراءة؟ ام ان الجريمة هي ان تكون الكتب متوفرة وحريتك في القراءة مكفولة ومع ذلك لا نقرأ؟ وهو ما عبر عنه الشاعر جوزف برودسكي في عام 1991 حين قال ان هناك جرائم اكبر من حرق الكتب واحدى هذه الجرائم هو الا نقرأها.

بعض حكام هذه الايام لم يعودوا بحاجة الى حرق الكتب. فقد تعددت الوسائل التي تحول بين الناس وبين القراءة، سواء كانت الوسيلة هي تفشي الامية او اللهاث الدائم وراء لقمة العيش او اللهاث الاكبر وراء متعة الجسد.