اتجاهات التغيير في النظام العربي

TT

يعرف الدارسون للعلوم السياسية ان النظام الدولي ليس متراصفة ثابتة من الاحجار، بل هو ترتيب زمني يخضع لتوازنات دقيقة ينتجها نمط توزيع القوة والتحالفات الاجتماعية المهيمنة. ولذلك تسعى القوة الماسكة بالنظام الدولي الى الحفاظ على استقراره وتوطيد دعائمه من خلال طرد الاتجاهات الساعية الى زعزعته عبر تغيير انماط وتوازنات القوة السائدة فيه، ولذلك يبتكر النظام الدولي شكلا من «الاسطورة» التي تؤسس اخلاقيا لبقائه وديمومته وتوفر غطاء ايديولوجيا لممارساته، في الوقت الذي تسعى القوى المتمردة الى تأسيس «اساطير بديلة» تمنح تمردها نطاقه الاخلاقي والايديولوجي، وبأي حال من الاحوال، اذا كان هناك شيء اثبتته احداث العالم الكبيرة في العقدين الاخيرين، فهو ان بامكان الجميع ادعاء السعي وراء الخير المطلق، الا ان مفاهيم الخير والشر اثبتت الى حد كبير انها مفاهيم نسبية وان احدا ممن يتعاطى السياسة لا يمكنه ان يمتلك رؤية مجردة لها بمعزل عن مصالحه وثقافته وتركيبة وعيه، وأحيانا لاوعيه.

ان القضية الاخلاقية في السياسة تطرح نفسها بقوة في العالم العربي، ولذلك اسباب عديدة تتركز اهمها على طبيعة العلاقة بين النظام الاقليمي العربي وبين النظم السياسية المحلية والنظام الدولي. ان النظام الاقليمي هو الاطار الذي تنتظم فيه القوى المحلية المهيمنة وأنماط تحالفاتها وتوازنات القوى فيما بينها، وهو ايضا اطار لترتيب العلاقة بين مجال جغرافي معين وبين النظام الدولي وقواه المهيمنة، ولذلك تنتظم علاقات الاقاليم بالنظام الدولي بحسب مستوى اندماجها فيه وتبنيها لأساطيره الكبرى، وعليه من الطبيعي ان يصف علماء السياسة المعاصرون امريكا الشمالية وأوروبا الغربية وأجزاء من الباسفيك باعتبارها الاقاليم النواة للنظام العالمي كونها المناطق التي تتركز فيها عناصر القوة المعاصرة (التكنولوجيا، اقتصاد السوق المتقدم، الاستقرار السياسي)، في الوقت الذي تتدرج علاقات المناطق الاخرى من الاندماج الجزئي الى التبعية الى التهميش. وحالة النظام الاقليمي العربي فيها قدر عال من الاستثنائية، فهذه المنطقة من العالم تمتلك مورد قوة رئيسي بامكانه ان يتحكم باستقرار ورفاهية المناطق المركزية نفسها، وهو النفط . غير انها في نفس الوقت منفصلة عن تلك المناطق بفعل فقرها التكنولوجي، وعدم التوازن الاقتصادي والسياسي، ورفضها للاسطورة السائدة داخل النظام وبالتالي لمنطقه الاخلاقي.

لم يكن باستطاعة النظام الدولي تهميش هذه البقعة من العالم بحيويتها الاقتصادية، كما لم يتمكن من دمجها تماما لعدم وجود أطر اجتماعية وسياسية وعقائدية مواتية، ولذلك تجسدت علاقة هذه المنطقة بالنظام الدولي من خلال انماط متباينة بل ومتناقضة، ففي الوقت الذي توجد دويلات ومدن عربية اندرجت تماما ضمن اقتصاد السوق بل تحولت الى مراكز جذب للاستثمارات العالمية (حالة دبي مثلا)، مازالت هناك مدن اخرى في نفس النطاق الاقليمي يهيمن عليها الفقر والانفصال الكلي عن النظام العالمي، ولحفظ التوازن ومنع هذه الخلخلة من ان تعصف تماما باستقرار المنطقة يتم توزيع عوائد النفط ضمنيا عبر تحويلات العمالة الوافدة، والإعانات الاقتصادية والاستثمارات الخليجية في البلدان العربية الافقر، ولنفس السبب ظل النظام الدولي متغافلا ولزمن طويل عن حقيقة ان هذه المنطقة تحكم من قبل أنظمة حكم منفصلة تماما عن معاييره الاخلاقية وأساطيره الكبرى (الديمقراطية، اقتصاد السوق، حرية التعبير والاعتقاد)، ولذلك عاشت القوى الكبرى ازدواجية التبني لهذه الشعارات والتحالف مع نظم لا تتسامح معها، في الوقت الذي عاشت المنطقة العربية ازدواجية نتجت عن هيمنة تصورات فكرية معادية للنظام الدولي وتستثمر وجود بيئات اجتماعية ساخطة على رعاية النظام الدولي للنظم الحاكمة وبين وجود تحالفات تربط البلدان العربية بالقوى العالمية الكبرى تحصل بموجبها على مساعدات عسكرية أو اقتصادية أو حمائية من هذه القوى .

أول مظاهر انفراط وتفكك هذا النمط من العلاقة جاء مع ادارة بوش وتبنيها لخطاب نشر القيم الديمقراطية ثم قدومها مباشرة الى المنطقة عبر احتلال العراق مبشرة بـ «شرق أوسط جديد» تنتهي فيه ازمتها «الاخلاقية» عبر التبني المباشر للاتجاهات الديمقراطية والليبرالية والتخلي عن الاعتماد على الزعامات «الضامنة» التي كانت تستغل خوف او تخويف الغرب من صعود الاسلام السياسي وبالتالي التمرد التام للمنطقة على النظام الدولي. لقد تصورت ادارة بوش ان وجودها المباشر في المنطقة وشروعها ببناء نموذج جديد في العراق كفيلان بالتخلي عن الحاجة لمنافقة نظم سياسية ينظر اليها وفق المعايير الامريكية على انها نظم ثيوقراطية وشمولية وقمعية ..

ومنذ ذلك التاريخ ، بدأت تلك العلاقة المتباينة بين الواقع العراقي الجديد والنظام الاقليمي العربي الذي قاوم بشدة محاولات التغيير وأسهم الى حد كبير في تعميق المازق الامريكي داخل العراق وبالتالي كسر شوكة «الخطر» وهو في مهده، ثم لتأتي عوامل عديدة اخرى رفدت التعثر الامريكي في العراق، مثل اخطاء ادارة ما بعد الاحتلال والتأزم الاجتماعي العراقي والتحدي الايراني، وخلال خمس سنوات من الاحتلال الامريكي شهدنا تغيرات كبرى كانفراط عقد التوازن الاقليمي والداخلي القديم في لبنان، وتلاشي الطابع الرومانسي للمقاومة الفلسطينية عبر صراع الاخوة الاعداء، وصعود النفوذ الايراني الاقليمي واستعادة تبنيه للرؤية الثورية، وانكفاء الدور الاقليمي لمصر، وعزلة سوريا، وانتقال ثقل القرار العربي الى الخليج، ولا يعني كل ذلك سوى ان النظام الاقليمي اخذ يشهد تغييرات اساسية لم يعد معها بالامكان العودة الى الوراء، وان المنطقة برمتها في وضع مفصلي يستوجب تغييرات في الاطر السياسية والاجتماعية والفكرية السائدة شهدنا بعضها مع اضطرار هذه الدول لإجراء اشكال من الانفتاح السياسي ولو الشكلي .

فهل نجحت امريكا بتحقيق الذي نشدته في المنطقة عندما دخلت العراق وأصبحت قوة تغييرية داخل العالم العربي القديم، الاجابة بعد كل شيء ان امورا تغيرت ونظاما اقليميا جديدا بمنطق مختلف اخذ بالتشكل ولكن ايضاً صاحبه، بل وغلب عليه، اقرار امريكي انها ستظل بحاجة الى زعامات ضامنة، والتي تتواضع من اجلها استحقاقات التغيير ابقاء على الاستقرار.