نحو ترسيخ العلاقات السعودية ـ القطرية: الأبعاد والآفاق

TT

منذ الربع الأخير من العام الماضي، والعلاقات السعودية ـ القطرية تشهد تطورات إيجابية هامة تصب جميعها في اتجاه إنهاء حالة الجفاء التي طغت على هذه العلاقات وأصابتها بنوع من الركود منذ عام 2002. فقد شهد شهر سبتمبر من عام 2007 عقد اجتماع على مستوى القمة في جدة جمع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وأمير دولة قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني بحضور كبار مسؤولي الدولتين. وقد كان من أبرز ملامح هذه القمة، التي جاءت كمفاجأة لكثير من المراقبين، هو تأكيد الطرفين على رغبتهما الصادقة وحرصهما الثابت على تصفية القلوب والنيات وطي صفحة الماضي، وتجاوز حالة التوتر وسوء الفهم التي سادت العلاقات الأخوية بين الدولتين الشقيقتين لسنوات طويلة، فضلاً عن تأسيس علاقات راسخة بينهما تقوم على أسس من التعاون والتنسيق.

وعلى الرغم من الأهمية التي مثلتها القمة السعودية ـ القطرية، فقد اعتقد بعض المحللين والمراقبين في حينه أن ما تشهده العلاقات بين الدولتين من محاولات للتقارب ما هي إلا «شهر عسل مؤقت» استوجبته رغبة القيادة القطرية في التمهيد لضمان نجاح اجتماع القمة الخليجية التي عُقدت لاحقا في العاصمة القطرية الدوحة في ديسمبر من العام نفسه. وفى ضوء ذلك، فقد رأى هؤلاء أن هدف زيارة القيادات القطرية إلى السعودية هو هدف قصير الأمد، وتكتيكي في طبيعته، حيث كان يتمثل في الحصول على تأكيد من قبل القيادة السعودية بالمشاركة في اجتماع قمة الدوحة لضمان نجاح القمة الخليجية.

واليوم، وبعون الله، يبدو أن الهواجس والتكهنات التي روج لها البعض بشأن واقع ومستقبل العلاقات السعودية ـ القطرية منذ انعقاد قمة جدة بين الدولتين لم تكن في محلها. فخلال الأشهر الستة الماضية اكتسبت العلاقات قوة دفع جديدة، حيث تكررت لقاءات القمة بين الدولتين بشكل ملحوظ، إلى جانب الزيارات المتبادلة لكبار المسؤولين في كل منهما. وقد أثمرت هذه الجهود في تحقيق تقدم ملموس في العلاقات السعودية ـ القطرية وعلى جميع المستويات. وتأتي الزيارة المزمع أن يقوم بها سمو ولي العهد السعودي الأمير سلطان بن عبد العزيز إلى الدوحة ضمن إطار تعزيز مسيرة التعاون والتنسيق التي أفرزتها «دبلوماسية الصفحة الجديدة» في العلاقات بين البلدين. فجهود سمو ولي العهد السعودي هي في حقيقة الأمر تعبير عن قناعة راسخة لدى قيادة المملكة العربية السعودية بوجوب الدفع نحو استمرار حالة التقارب والتوافق بين الدولتين الشقيقتين بما يحقق مصالحهما المشتركة، ويعزز من العمل الخليجي المشترك في إطار مجلس التعاون، وكل ذلك من شأنه الدفع في اتجاه بلورة موقف عربي أكثر فاعلية وتماسكاً إزاء المخاطر والتحديات الكبيرة المشتركة التي تواجهها المنطقة اليوم.

إن التطورات الإيجابية في العلاقات السعودية ـ القطرية يمكن فهمها في إطار وجود إدراك مشترك لدى دول مجلس التعاون الخليجي بصفة عامة، وكل من المملكة العربية السعودية ودولة قطر على وجه الخصوص، مفاده أن هذه الدول أمست تبحر في قارب واحد وتواجه نفس المصير، حيث أن الأخطار والتحديات الأمنية التي تواجهها منطقة الخليج والوطن العربي بصفة عامة لن تستثني أحدا من ويلاتها وعواقبها الوخيمة، وبخاصة في ظل تزايد التهديدات ذات الأبعاد الاستراتيجية التي تفرزها السياسات الأمريكية، والإسرائيلية، والإيرانية مجتمعة أو فرادى. وفي هذا السياق فقد باتت دول مجلس التعاون الخليجي على قناعة راسخة بأن استقرار وأمن منطقة الخليج لا يمكن تحقيقهما والمحافظة عليهما بمعزل عن التطورات الخطيرة الجارية اليوم في العراق، وفلسطين، ولبنان، بجانب أخطار ومخاطر الطموحات الإيرانية الرامية إلى الهيمنة الإقليمية وتوسيع مناطق النفوذ على حساب العرب، وتوظيف قضاياهم من فلسطين إلى العراق إلى لبنان كأوراق في إدارة العلاقات الإقليمية والدولية للدولة الإيرانية. كل هذا يجري في ظل حالة الغموض والحيرة التي تلف سياسة ومواقف الإدارة الأمريكية القادمة تجاه المنطقة وقضاياها الأمنية الرئيسية، وهو ما يتجلى بوضوح في الإشارات المتضاربة والغامضة التي يرسلها كل يوم مرشحو الرئاسة الأمريكية حول القرارات والمواقف التي سيتبنونها تجاه قضايانا المصيرية.

وفي مجال العلاقات الخليجية البينية، لا يتصور أحد قيام «تطابق» تام في مواقف جميع دول مجلس التعاون تجاه جميع القضايا، فدول المجلس هي دول صاحبة سيادة ولكل منها خصوصياتها الجيو ـ سياسية والاقتصادية ومصالحها وحساباتها الاستراتيجية. ومفهوم الخصوصية هذا ينطبق بدون شك على العلاقات والمواقف السعودية ـ القطرية، كما أنه ينطبق على العلاقات والمواقف السعودية ـ الإماراتية وغيرها من العلاقات الخليجية، ويبرز ذلك خاصة عندما يتعلق الأمر بلغة الخطاب مع إيران، والتي قد تكون مثار اتفاق أو اختلاف من حيث مضمونها أو أسلوبها. وفى ضوء ذلك فإن ما نطمح إليه، واقعيا وعمليا، وما تتطلبه الظروف الصعبة التي نمر بها كخليجيين وعرب هو التمييز بوضوح شديد بين قضايا استراتيجية، تتعلق بالوجود والأمن والهوية، يجب أن تكون محل اتفاق على الأقل على مستوى المبادئ والأهداف، وبين قضايا فرعية يمكن أن تتعدد بشأنها الرؤى والتصورات والمواقف. وفي جميع الحالات، فإن العبرة ليست بوجود التعدد والاختلاف في إطار البيت الخليجي، حيث لا يمكن تصور قيام تجمع أو تكتل من الدول بدون ان تنشأ داخله خلافات، ولكن العبرة بطريقة إدارة الخلافات ومعالجتها بما يسمح ببناء التوافق في نهاية المطاف أو على الأقل تحييد عناصر الخلاف، وهذا يتطلب تعزيز التشاور والتنسيق والتعاون من اجل التوصل إلى مواقف واضحة المعالم والأبعاد يفهمها القريب والبعيد وتشكل «الموقف الخليجي الموحد» الذي سيكون دعماً وأساساً صلباً للموقف العربي القومي.

وبلغة أخرى، ومن منطلق تقدير واحترام الخصوصيات بدون التضحية بوجوب الحرص على التوافق، فإن أحداً لا يطالب القيادات الخليجية التحدث بلغة واحدة، رغم أنه أمر مطلوب ومحبذ في مواجهة الأزمات التي تعصف بالمنطقة، بل إن الحد الأدنى المطلوب هو التحدث بلغة موحدة في أهدافها تنبع من إدراك مشترك للمخاطر الجماعية التي تواجهنا. فقد تقدمنا كثيراً في احترام الخصوصيات لكل دولة خليجية، وعلينا في الوقت نفسه أن نتطور لإيجاد أرضية موحدة تضمن حماية المصالح المشتركة ذات الأبعاد الاستراتيجية.

فالسعودية وقطر على سبيل المثال، هما في نهاية المطاف، ورغم التباين الهامشي في المواقف، أو في أسلوب ووسائل التعبير عنها، دولتان تشتركان في مواجهة نفس الهموم الأمنية الخليجية، وتواجهان حقيقة محدودية الاختيارات على الأرض، مما يقود إلى اتخاذ قرارات استراتيجية متوافقة أو متقاربة.

وأخيراً، يتطلع الشعبان السعودي والقطري إلى العمل بجدية لتطوير التقارب والتوافق السياسي الذي تم إحرازه خلال الأشهر الماضية إلى تكامل اقتصادي بين الدولتين، وتعزيز علاقات التعاون والتنسيق بينهما في مختلف المجالات بما في ذلك التصدي لخطر الإرهاب، كل ذلك من شأنه تعزيز مسيرة الأخوة وضمان ديمومة المصالح والمنافع المشتركة للشعبين الشقيقين بإطارها الثنائي والخليجي. ففي مجال التكامل الاقتصادي على سبيل المثال، هناك آفاق واسعة لإقامة مشاريع اقتصادية مشتركة بين الدولتين الجارتين، ولا يمكن تجاهل جدواها الاقتصادية والسياسية، وبخاصة في مجال تطوير موارد الطاقة بما في ذلك إنتاج الكهرباء باستخدام الغاز القطري وتصديره عبر الأراضي السعودية، ليس لدول الخليج التي تزداد احتياجاتها إلى الكهرباء بما يزيد عن سبعة في المائة سنويا وحسب، ولكن إلى دول الجوار التي تعاني من حاجة ماسة إلى الكهرباء مثل العراق، أضف إلى ذلك أن الغاز الطبيعي هو المصدر الرئيسي للطاقة في عمليات توسيع الصناعة البتروكيماوية في دول الخليج.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث

[email protected]