«عدو عدوّي صديقي».. على الطريقة الإسرائيلية!

TT

ما كاد الضجيج يخفت على إعلان واشنطن إرسالها المدمِّرة الأميركية «كول» إلى جزء من البحر المتوسط قريب من ساحل لبنان وسورية، حتى وقع الهجوم الذي وصف بـ«الانتقامي» ـ باسم الحاج عماد مغنية ـ في القدس الغربية على مدرسة دينية يهودية.

منظر الفرحة العارمة للجماهير الفلسطينية، والعربية عامة، بعملية القدس الغربية، التي سقط فيها عشرات القتلى والجرحى مفهوم.. بل يبدو طبيعياً في ظل العجز العربي المقيم عن وقف العربدة الإسرائيلية التي تتذرّع بـ«تأديب» حركيي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» على إطلاق صواريخهم على المستعمرات الإسرائيلية في قطاع غزة وجنوب فلسطين 1948.

أقول مفهوم وطبيعي جداً أن يشعر الإنسان المحبط بالفرح والشماتة معاً إزاء قوة بطش تضرب بلا هوادة ولا تبصّر.. فلا تميّز بين الأهداف القتالية والمدنيين العزل.

إلا أننا عندما نتابع قصفاً إسرائيلياً يأتي في غياب خطة سياسية واضحة المعالم لما بعده، وردات فعل لـ«حماس» و«الجهاد» بدأت بمناشدات إنسانية لوقف «المجزرة» وانتهت بإعلان «انتصار» المقاومين على العدوان، نجد أنفسنا إزاء «سيناريو» مشابه لـ«سيناريو» الحرب «التأديبية» التي شنتها إسرائيل على لبنان في صيف 2006.

تلك الحرب التي دمّرت إسرائيل فيها من لبنان ما دمّرت وهجّرت منه مَن هجّرت، قبل أن تزعم أنها أخفقت في تحقيق أهدافها، وبالتالي، أعطت الإشارة لـ«حزب الله» لكي يعلن على الملأ «انتصاره الإلهي».. ومِن ثَم يحوِّل سلاحه العسكري والإعلامي والسياسي إلى الداخل.

أول من أمس عاد إيهود أولمرت، «بطل» حرب 2006 إلى نغمة تل أبيب القديمة.

عاد أولمرت، الذي ألحقت حكومته وسابقاتها أكبر الضرر بالقوى الفلسطينية المعتدلة، فنسفت صدقيتها ووضعتها في قفص الاتهام أمام شعبها.. إما بتهمة العجز أو الخيانة، إلى اتهام «السلطة الفلسطينية» بالتقصير في التزاماتها الأمنية. وكأن هذه «السلطة» التي منعتها تل أبيب أصلاً أن تكون «سلطة».. تسيطر حقاً على مناطقها، أو كأنها متواطئة مع الشبان الذين يطلقون الصواريخ أو ينفّذون العمليات الاستشهادية.

هنا لا أريد إثارة «نظرية المؤامرة» المألوفة جداً في عالمنا العربي.. لكننا نبدو قريبين منها بصورة تثير الشك والقلق.

فالكل يتذكّر كيف تصرّفت تل أبيب مع ياسر عرفات في أواخر أيّامه، عندما حبسته في مقر المقاطعة برام الله بعدما اتهمته بالمسؤولية عن كل الخروق الأمنية التي كانت تتعرّض لها، وذلك برغم علمها أنها من عمل «حماس» والجهاد».. ولهذا أقدمت على تصفية عدد من كبار قادتهما.

والكل يتذكر أيضاً أن خلق قوة موازية لمنظمة التحرير الفلسطينية داخل الأراضي الفلسطينية لتسريع «الحرب الأهلية» وتصفية مقومات «الدولة ـ الحلم».. كان هدفاً استراتيجياً لإسرائيل، حتى قيل أنه لو لم توجد «حماس» لوجب إيجادها. وهذا ما دفع البروفيسور الراحل إدوارد سعيد ذات يوم إلى القول «إن واشنطن وإسرائيل ليستا متضايقتين البتة من ان تكون الأصولية الدينية هي البديل الجاهز لمنظمة التحرير».. فالأصولية خير ذريعة لإلغاء «الدولة».

خارج فلسطين حصل الشيء نفسه، وجرى بين 1975 و1976 تكليف قوة إقليمية ـ هي دمشق ـ بضرب منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ومعها ضرب الحركة الوطنية اللبنانية التي كانت تدعمها. وخلال 30 سنة من الهيمنة السورية الأمنية على لبنان، معظم فتراتها بموافقة ضمنية أميركية ـ إسرائيلية، صفّي الوجود الفلسطيني المستقل، وتعزّزت مواقع المنظمات الملتحقة استراتيجياً بدمشق، وزُرعت بذرة البديل الأصولي والطائفي لتنمو ثم تُبعِد عن الساحة كل القوى التحرّرية والتقدمية الأخرى.

وبعدما كانت «المقاومة» وطنية لبنانية.. أضحت حصرياً «مقاومة» شيعية «حزب اللهية» لديها من السلاح ما ليس لدى الدولة، ولها داخل أجهزة السلطة الأمنية والإدارية التي بنيت إبان السنوات الـ30 الأخيرة مراكز قوىً وقرار، ولاؤها محسوم وخياراتها قاطعة. ولولا الخطأ الفاحش الذي ارتكبه مَن نفّذ على الأرض جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه، وأساء تقدير عواقبها السياسية كما ينبغي، لما كانت الأمور في لبنان تكشّفت بالسرعة التي تكشّفت بها، ولما اضطر كثيرون لفضح ارتباطاتهم وأدوارهم المرسومة منذ وقت ليس بالقصير. اليوم، وسط الفراغين المخيفين في فلسطين ولبنان، يجد العرب أنفسهم مدعوين إلى «قمة» هم أعجز الناس عن ضمان نتائجها.. حتى في حال اتفقوا على جدول أعمالها.

فدمشق، مستضيفة القمة، ترعى في «توارد خواطر» غريب مع كل من طهران وتل أبيب، معركة التعجيل بالقضاء على البقية الباقية من «السلطة الفلسطينية»، ونسف الكيان اللبناني ـ الذي لم تؤمن به دمشق في يوم من الأيام ـ من الداخل، وتبتزّ كلاً من مصر والأردن بالصلات الاستراتيجية للأصولية السنيّة الفلسطينية ممثلة بـ«حماس» و«الجهاد الإسلامي» مع بعض القوى الأصولية في البلدين، وتبتزّ بل وتهدّد دول الخليج (بعد اكتمال سقوط العراق) بالتحالف الاستراتيجي الكامل مع إيران.. بدليل دعوة رئيس الجمهورية الإيراني إلى القمة قبل دعوة العاهل السعودي إليها، وهذه خطوة غير مسبوقة ـ على حد علمي ـ في تاريخ القمم العربية.

حتى هذه اللحظة لا تبدو إسرائيل منزعجة من هذا الوضع. وما يُقال في أروقة القرار في أوروبا، وفي دهاليز «كتل الضغط» في واشنطن أيضاً، هو أن تل أبيب ما زالت مقتنعة بإمكانية فسخ التحالف بين طهران ودمشق، وأنها مع مواصلة عرض «الجزرة» من دون التلويح بـ«العصا» إلى النظام السوري. وثمّة من يشير إلى أن تصفية عماد مغنية جزء من هذه الحسابات الإسرائيلية، بينما واشنطن منشغلة بحملة انتخاباتها الرئاسية.

هنا، اعتقد أن على العرب فهم حقيقةً قد لا يستسيغونها كثيراً، هي أن اليمين الإسرائيلي الذي يعادي العربيّ كإنسان.. ويكره العرب كشعب.. لا كأنظمة، لم يصدُق يوماً في كلامه المعسول عن حرصه على ترويج الديمقراطية في العالم العربي.

وعليه، فلا مانع لديه على الإطلاق في التعاون مع أي قوة ديكتاتورية.. والرهان عليها لكي تخدم مصالحه. ولهذا السبب، بالذات، تبدو دمشق مطمئنة إلى نجاح مناوراتها.