التضخم يفترس الثقة الشعبية بالدولة والنظام

TT

التضخم (ارتفاع الأسعار) الابن الشرعي للرأسمالية. لكي تستطيع الرأسمالية تمويل تقنية التطوير الصناعي لا بد لها من أن تربح. الربح يأتي من الارتفاع المستمر في الأسعار. المجتمع الرأسمالي والصناعي يقبل، عادةً، بتضخم معتدل (بحدود 2 بالمائة سنويا) بحيث لا يعتدي على الازدهار الاجتماعي والاقتصادي. لا يقضي على القوة الشرائية. الاستهلاك متعة المجتمع الرأسمالي. لا رفاهية من دون شراء واقتناء اللذائذ الرأسمالية المادية والمعنوية.

سقطت حكومة العمال البريطانية في نهاية السبعينات عندما تجاوز التضخم معدل 3 بالمائة. جاءت ثاتشر المرأة الحديدية المحافظة لتأسر التضخم، لكن لتطلق العنان لرأسمالية متوحشة تقيّد نقابات العمال والضمانات الاجتماعية. إذا كان بلد متقدم اقتصاديا واجتماعيا كبريطانيا لا يطيق تضخما يتجاوز 3 بالمائة، فماذا يمكن القول عن عالم فقير، كالعالم العربي، يتراوح التضخم فيه، منذ ثلاثة شهور، بين 5 بالمائة، و15 بالمائة؟

التضخم عندنا لا يسقط الأنظمة والحكومات. المستهلك العربي ليس أنانيا كالمستهلك الغربي. العربي لا ينحاز إلى جيبه ومعدته. ما زال العرب أسرى ما أسميه «التضخم السياسي»، أسرى الشعارات والرموز والممارسات والسياسات الراديكالية التي لا تراعي المصالح الاقتصادية. «حزب الله» و«حماس» من أسباب الجمود الاقتصادي والبطالة والتضخم الجنوني في لبنان وغزة.

لكن وصول التضخم إلى مستويات عالية سوف يهدد حتماً الاستقرار السياسي والاجتماعي باضطرابات خطيرة. الراديكالية الدينية هي المستفيد الأول من تراجع الثقة الشعبية بالدولة والنظام. ظواهر الاضطراب كثيرة. هناك تذمر هائل في المجتمعات العربية. المستهلك العربي لا يفهم لماذا لا يلجم ارتفاع أرباح النفط ارتفاع أسعار الغذاء؟

الدولة أو النظام العربي لا تهتم بالتفاصيل. ليس هناك شرح كاف للمواطن لحقيقة من بديهيات الاقتصاد: السيولة النقدية والمالية الناجمة عن أرباح النفط، مثلاً، تجعل المال رخياً، سهل التداول، متاحاً بفوائد قليلة للاقتراض والاستدانة. كلما رخص المال ارتفع التضخم. السلع الأساسية تتطلب ثمناً باهظاً لها عندما تلمس إقبالاً شرها على الاستهلاك. لمكافحة التضخم، تلجأ السعودية إلى إقناع المصارف بالاحتفاظ في خزائنها بأكبر قدر ممكن من السيولة المالية.

غير أن السعودية نجحت في شرح خطأ استخدام النفط كسلاح سياسي. دول أوبك، بما فيها المتزمتة أو المتشددة، باتت مقتنعة بأن قطع النفط، لمعاقبة الغرب، يتسبب بموجة تضخمية في أسعار السلع تعود بنتائج سلبية على الدول النفطية. هذه الدول هي أصلاً دول مستوردة لغذائها وسلعها الأساسية. وبالتالي فهي تستورد التضخم الكارثي الذي أحدثته في الاقتصاد العالمي.

لعل عولمة التضخم هي السبب في تأخر الدولة والنظام العربي عن الشرح والتفسير. التضخم اليوم ظاهرة عالمية. المجتمعات المستهلكة تستورد التضخم. العرب يستوردون 85 بالمائة من قمحهم وغذائهم! بعض دولهم قادرة على شراء السلع بأسعارها المرتفعة. بعض دولهم لا تريد استنفاد احتياطيها من المال بدعم سعر الغذاء، أو لشرائه بكميات كافية لسد الحاجة الشعبية له.

أضرب مثلاً: الدولة في مصر غنية. لكن عليها استيراد نحو ستة ملايين طن من القمح سنويا، إلى جانب تمويل حاجاتها الدفاعية والأمنية وخدماتها التربوية والصحية... مصر في الوقت ذاته لا تستطيع التوسع زراعيا، بسبب الحاجة إلى مزيد من النيل الذي تتحكم به دول المنبع والممر. 75 مليون مصري يعيشون على شريط أرضي لا تتجاوز مساحته 60 ألف كيلومتر مربع من أصل وطن مساحته نحو مليون كيلومتر مربع. شراهة التناسل تضيف مليون مصري جديد كل تسعة شهور وأفواههم مفتوحة تطالب باللبن الحليب والخبز. وغداً بالمدرسة. وبعد غد بالعمل. أية دولة في العالم لا تستطيع تخطيط اقتصادها وتنميتها، إذا لم تتمكن من تخطيط حياة أسرتها، وضبط تناسلها وتكاثرها.

نقص المخزون العالمي من الغذاء، ولا سيما القمح والحبوب، راجع إلى سببين أساسيين. السبب الأول جنوني، وهو تحول العالم الصناعي إلى استخدام جانب من الإنتاج والمخزون الغذائي في إنتاج النفط العضوي (الإيثانول). الرغبة الجنونية في التحرر من نفط العرب هي وراء التضحية بالغذاء، لإنتاج وقود أكثر اعتداء على البيئة من النفط المستخرج من باطن الأرض.

السبب الآخر لنقص المخزون الغذائي هو تراجع الإنتاج بسبب سخونة الجو وتقلب الطقس. تلوث البيئة سوف يلعب دوراً أساسياً في نزاعات الدول والبشر على الأرض والمياه والنفط. الجفاف تسبب في العام الماضي بقحط غذائي، وتراجع المخزون العالمي من السلع الأساسية، كالقمح والأرز.

جفاف وسخاء في المياه تحت سماء واحدة! ازدادت ملوحة الأرض المقابلة للزراعة، في حين تكاثرت الفيضانات والأعاصير والعواصف، من دون أن يستطيع الإنسان الاستفادة من مياهها. زحفُ الصحراء في السودان بسرعة مائة كيلومتر في السنة، سبب رئيسي لنشوب النزاع في دارفور. رعاة الإبل في الشمال أطلقوا مواشيهم الباحثة عن الكلأ في أراضي الجنوبيين المزروعة.

تراجعت قدرة الدول المانحة للغذاء على تقديمه للمجتمعات الجائعة. 25 ألف إنسان يموتون جوعاً كل يوم. سخونة الجو تذيب جليد القطبين. العرب غداً مهددون بتضخم من نوع آخر، تضخم كتلة المياه في البحار والمحيطات. بيروت وغزة والدلتا المصرية تواجه احتمال طغيان مياه البحر خلال هذا القرن.

لا حلول سحرية «جهادية» أو رسمية للتضخم. العرب وغيرهم مضطرون لمعايشة التضخم إلى نهاية العقد الحالي (2010) على الأقل. الدولة قد تضطر إلى ربط عملتها بسلة عملات بديلة للدولار، إذا لم تقم الإدارة الأميركية الحالية أو المقبلة بتعويم الدولار. أميركا تستورد نفطاً عربياً بالدولار الرخيص. العرب يدفعون ثمناً باهظاً لاستيراد السلع من منطقة اليورو المرتفع الثمن بالنسبة للدولار. من هنا، فدول الأوبك وأوروبا تلح على أميركا لإصلاح نظامها المالي وتعويم دولارها.

الدول النفطية الغنية مدعوة لإدراك خطر الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن التضخم. شركات القطاعين العام والخاص تلجأ إلى تحميل المستهلك عبء زيادة الأسعار. المصارف الإسلامية تبيع سلعاً ومصنوعات لزبائنها، وفقاً لنظام المرابحة، بأسعار أغلى من أسعار السوق! في رعايته للمستهلك المحدود الدخل، ابتكر أمير الرياض سلمان بن عبد العزيز أسلوباً مؤقتاً لمكافحة التضخم. راحت الإمارة تنشر بانتظام مقارنة بين أسعار السلع في المجمعات الغذائية والاستهلاكية. اضطرت الإمارة هذه المجمعات إلى خفض أسعارها عندما تجدها متجاوزة أسعار مجمعات أخرى. كان الإجراء مفيداً للغاية قبل أن تبادر الدولة إلى وضع خطط لمواجهة الغلاء.

ضبط الأسعار، ولا سيما إيجارات البيوت، واستخدام الدولة الخليجية لعوائد النفط الضخمة في خدمة المستهلك ومكافحة الآثار التضخمية للسلع... كل ذلك من شأنه تعميق ثقة المواطن الخليجي بجدية الدولة والنظام في حماية قوته الشرائية ومكاسبه الاجتماعية الواسعة التي يتمتع بها.

أما الدول العربية، المشرقية والمغربية، فلا بد لها من معالجة ضعف الأمن الغذائي بالتوسع في الزراعة، وترشيد استخدام المياه. وقبل كل ذلك العودة إلى ربط الدولة بمفهوم الوطن، بدلا من ربط النظام بمصالح العشيرة أو القبيلة أو الطائفة الحاكمة.