الموت

TT

«ضمائرنا بحاجة إلى السلام، أرواحنا بحاجة إلى الراحة، عقولنا بحاجة إلى هدوء التعقل.. ليل طويل جميل! لكن الصباح القادم لا محالة!».. احمد الربعي في آخر اربعائية نشرها قي «الشرق الأوسط» بعنوان: «ليلة طويلة جميلة»، في 14 فبراير 2007.

لن أرثي الراحل المقاتل احمد الربعي، رغم حزني لرحيله، وتذكري رؤيته آخر مرة بعدما عاد إلى الكويت، وأمضيت معه في الكويت يومين ونحن نتنقل من مكتبه إلى إحدى الديوانيات، إلى بيته.. كان يتحدث بتدفق وانطلاق، يسخر هنا، ويحدث عن مقال هناك، ويزجي ملاحظة نقدية في موضوع سياسي أو اجتماعي، ثم يختم بالحديث عن اهتمامه الشديد بأنواع التمور وأصناف النخيل..

لن أتحدث راثيا، فقد رثاه من يعرفه أكثر وأقدم وأعمق مني، رثاه احمد الخطيب وجاسم القطامي واحمد الديين ويوسف الجاسم وعبد الرحمن الراشد.. وغيرهم من أصدقاء الراحل القدامى.

لكن الرجل الذي عرفته في سنوات عمره الأخيرة، كان رجلا نسيج وحده، في جوانب كثيرة، له وعليه كأي إنسان، ولكنه تميز بعمق وتنوع الثقافة، وصدق الهم، ونقاء الانحياز لقيم الحرية والتقدم، وقدرته المميزة على الخطابة والاحتجاج.

سألته لماذا لا يكتب سيرته الطويلة والحافلة منذ بدايته الثورية الصاخبة في الكويت مع عبد اللطيف الدعيج وبقية الفتية الثائرين، أو مرحلة الثورة المسلحة في ظفار ثم السجن في قلعة «الجلالي» الرهيبة، ثم الدراسة في أمريكا ثم العودة إلى الكويت وحركة الدواوين، والوزارة وقانون الاختلاط، ومعارك الكويت الخارجية مع مثقفي عرب الشمال أثناء وبعد احتلال الكويت.. وغير ذلك.

فأجاب، وهو في صالون بيته، قبيل أشهر قليلة: أول شيء فكرت به بعد إفاقتي من عملية الرأس هو الندم على أنني تأخرت في كتابة هذه الحكايات والمحطات من حياتي.

ولا أدري هل كتبها قبل رحيله أم لا ؟

الموت الذي كان يصارعه الربعي، لم يكن موتا عاديا، كان صراعه معه على مستوى فلسفي ونفسي، لقد أثبت الربعي أن الصراع مع قدر الإنسان هو صراع يأخذ لونه وبريقه من مستوى ودرجة وعي الإنسان، الموت يصبح عظيما وعميقا وباهرا، بدرجة تلقيك له، ومناوشتك إياه. الموت: تعريف متغير، يتحدد بالمعرف. قد يصبح موتا عابرا أو مكررا أو مستهلكا في رثائيات وعبارات مكررة منذ أول عزاء أقيم على الأرض، وقد يصبح حدث الأحداث ومنعطفا فكريا وفتحا فلسفيا في جدار العتمة... مثلما كان موت سعد الله ونوس رحلة نور في «مجاهل موت عابر».

سدد الربعي سهم الحياة في كبد الموت، وكان يقول في لقائه الأخير على شاشة العربية مع صديقه يوسف الجاسم: مرض الموت مثل الذئاب، إن رأت فيك تراخيا او ذعرا هجمت بشراسة، وإن رأت فيك قوة ونضجا، خافت منك هي، لقد كانت تلك الذئاب تخاف من لامبالاة أحمد!

الموت هو أس الأسئلة الأولى مع الإنسان، بل إن الفلسفة كلها ليست إلا «تأملا للموت» كما قال افلاطون، وهو يعني بذلك، كما يشرح الفيلسوف المصري الراحل عبد الرحمن بدوي، أن الموت هو الوسيلة التي يتيسر بها للفيلسوف أن يفكر جيدا! ذلك أن حياة الفيلسوف عند افلاطون متجهة دوما إلى تأمل الصور والمثل ولا يتيسر تأمل الصور تأملا حقيقيا ما دامت الروح حبيسة الجسد، ولذلك فالموت لدى افلاطون ابتداء وليس انتهاء. بدوي ينبه إلى أن شوبنهور فهم أمرا مغايرا من عبارة أفلاطون، حيث فهما كما يتبادر أن الموت هو الموضوع الرئيسي للفلسفة، وان كان موضوع الموت هو احد موضوعات الفلسفة الكبرى، إن لم يكن ابرز موضوعاتها الوجودية.

كيف يتحول الموت، أو الشعور به، إلى قوة نفسية ودرجة من درجات الرقي الروحي، من دون أن يصبح ذلك مرهونا بذوبان الشخصية الفردية بالشخصية الجماعية التكرارية ومواقفها إزاء الموت الغامض المخيف؟

ذلك هو التحدي الذي نجحت قلائل من الأرواح المتمردة في فعله.

الموت في بعض المقاربات الفلسفية الحياتية هو أبرز إمكانات الحياة، بل هو الإمكان الوحيد الحقيقي فيها، فهو عنصر كامن في طيات الوجود نفسه، فلا يتصور وجود بدونه، هو سيد الوجود، ثم انه المنفذ الوحيد الذي يكون الإنسان فيه عابرا إلى الحرية، حيث أن كل شيء في الوجود يمشي في عربات القطار المحدد الوجهة سلفا، المعروف العاقبة، إلا الموت، كما ينقل عبد الرحمن بدوي عن الشاعر الألماني سيلزيس: «أنا أقول إن الموت هو أحسن شيء من بين جميع الأشياء، لأنه وحده الذي يجعلني حرا».

الموت هو وجه الحياة الآخر، وبدونه لا تكون الحياة أصلا، كما الليل الذي لن نعرفه بدون النهار، ولا النهار بدون الليل. ولذلك كان نيتشه يقول: «حذار أن نقول إن الموت مضاد للحياة».

ما يقصده هؤلاء الفلاسفة هو البحث في موقع الموت من الوجود وعلاقته بسيرورة الوجود الإنساني نفسه، ومدى صوغه لهدف وطبيعة وحدود هذا الوجود.

غير أن هناك معنى ألطف وأعذب وأخف لكون الموت مكملا للحياة وطبقة من طبقاتها، وهو المعنى الأدبي الذي يركز على انتصار الخلود المعنوي على الموت الجسدي، كما قال شاعر الرافدين محمد مهدي الجواهري في رثاء ذكي العراق وشاعرها معروف الرصافي، فمما استوقف الجواهري في رثاء الرصافي، الذكي الألمعي، انطفاء هذه الشعلة العقلية والروحية وتحولها إلى جسد ذاو يدفن في حفرة من حفر الأرض..

فقال:

لغز الحياة وحيرة الألباب / أن يستحيل الفكر محض تراب.

ومضى رافضا أن يصبح وجود الرصافي مشروطا بوجود الجسد الفاني، متوترا من غدر الموت ومخاتلته للإنسان، وقال:

أنا أبغض الموت اللئيم وطيفه / بغضي طيوف مخاتل نصاب

لماذا تكره الموت الغادر إلى هذه الدرجة أيها الجواهري؟ يجيب أبو فرات:

ذئب ترصدني وفوق نيوبه / دم إخوتي وأقاربي وصحابي

روح متمردة أخرى كان لها أسئلة مؤلمة مع هذا التعب الذي يرافق الإنسان في وجوده، ووقفة «تأمل مع الموت»، حسب عبارة افلاطون، وهو شيخ المعرة وحكيمها، رهين المحبسين المعري، في تأمله الشفيف لتراجيديا الإنسان والموت، في رثائه لأحد أصدقائه من الفقهاء. ومن أعمق وأبهى ما قاله المعري في وقفته الشعرية التي صدرها بـ: غير مجد في ملتي واعتقادي/ نوح باك ولاترنم شادي.

قوله:

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.

وقبيح بنا ـ وإن قدم الـعهد ـ هوان الآباء والأجـداد.

رب لحد قد صار لحدا مرارا ً ضاحكا مـن تزاحم الأضداد.

ويقفل بخلاصته المؤلمة:

تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد

قلت في بداية الحديث، لست راثيا للراحل الباقي أحمد الربعي، بل مـتأمل لحدث رحيله، وهو صاحب الفكر الوقاد والعزيمة الوثابة، وأردد تعجب الجواهري عن: لغز الحياة وحيرة الألباب / أن يستحيل الفكر محض تراب.

إنها قصة الإنسان التي لا تنتهي أبدا، مع هذا الذئب الذي: ترصدني على أنيابه دم أقاربي وصحابي.

الربعي غلب هذا الذئب، بل الذئاب، كما قال في حواره الأخير..

من يغلب الذئب يبقى ومن يخاف منه يفنى، هذا آخر درس لأستاذ الفلسفة أحمد الربعي.