معركة الترجمة ابتدأت.. ولن تنتهي قريبا

TT

فوجئت عندما وصلت الى بلاد أبي القاسم الشابي ان هذا العام هو عام الترجمة في تونس. وسوف تعقد على مدار السنة ندوات في كل انحاء البلاد حول الموضوع. وهذا أكبر تكريم للترجمة والمترجمين في العالم العربي. وقد كانت تونس سباقة ورائدة في هذا المجال كما في مجالات أخرى. فهذا اعتراف رسمي بأن الترجمة ليست فعالية ثانوية أو هامشية كما يتوهم بعض المثقفين العرب الأشاوس وإنما هي فعالية ابداعية بالكامل. بل وعلى نجاح عملية الترجمة الشاملة سوف تتوقف نهضة العرب المقبلة: ان تكون او لا تكون.

أكتب هذه الكلمات من قابس عروس الجنوب التونسي، حيث اتيح لي ان اشارك في احدى هذه الندوات مدعوا من قبل الدكتور محسن الزارعي مدير المعهد العالي للفنون والحرف التابع لجامعة قابس. لقد أتاحت لي هذه الدعوة ان اشرح موقفي من الترجمة امام جمهور طويل عريض من الكتَّاب والباحثين وبالأخص من طلبة الجامعة وطالباتها. وكانت فرصة ذهبية ان ترى أمامك كل هذه الشبيبة المتحمسة للمعرفة وان تتحدث أمامها عن همومك كمترجم محترف على مدار ربع قرن. أحسست بأن حماسة هذه الشبيبة التونسية الرائعة هي الكنز الوحيد الذي نمتلكه نحن العرب. أقول ذلك وبخاصة انها شبيبة عربية اسلامية مهذبة فعلا وذات فضول معرفي حقيقي، وهذا ما تجلى من خلال النقاشات الداخلية والخارجية، العامة والجانبية.

لا استطيع ان استعرض هنا كل ما قلت في تلك المحاضرة، حيث خرجت على النص الأساسي وذهبت بي تداعيات الحديث الشفهي المرتجل في كل الاتجاهات. كانت نقطة انطلاقي الأساسية هي اننا بحاجة الى ترجمة أمهات الكتب في شتى مجالات المعرفة من علوم انسانية وعلوم دقيقة أو صحيحة كما يقول اخواننا التوانسة. فلكي نستدرك ما فات ونلحق بركب الأمم المتحضرة، فإننا بحاجة الى نقل مكتبة كاملة في كلا المجالين. كل الثورات العلمية والفلسفية التي حصلت في اوروبا على مدار القرون الأربعة المنصرمة ينبغي ان تعرف وتستوعب وتهضم في لغتنا العربية. ولا اعرف طريقا اخرى للنهوض الحضاري او لاستدراك التفاوت التاريخي بيننا وبينهم. فهم عندما أرادوا النهوض ترجمونا في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. بل وأنشأوا مدارس خاصة في طليطلة وصقلية وسواهما لترجمة علمائنا وفلاسفتنا الكبار من أمثال ابن سينا، وابن رشد، والفارابي، والغزالي، وسواهم عديدين. ونحن لكي ننهض ينبغي أن نفعل نفس الشيء. ينبغي أن نقلّد اليابانيين في هذا المجال. فقد سمعت أنهم كرسوا فرق بحث جامعية عديدة لهذا الغرض، وكل فريق متخصص بترجمة أحد العلماء الأوروبيين أو الفلاسفة الكبار، فهذا يكرس جهوده لترجمة كانط مثلاً، وذاك لترجمة هيغل، وثالث لترجمة هربرت سبنسر، ورابع لترجمة أوغست كونت.. الخ. بل وهناك أساتذة في جامعة طوكيو أو سواها متخصصون بترجمة كلودليفي ستروس، أو جان بول سارتر، أو ميشيل فوكو، أو يورغين هابرماس، أو غيرهم من أعلام الفكر الحديث.. على هذا النحو استطاع اليابانيون استدراك تأخرهم عن الغرب وسدّ الثغرة التي كانت تفصل فكرياً بينهم وبينه. ولم يجدوا أية غضاضة في الأخذ عن الآخرين من أجل اللحاق بهم أو سبقهم إذا لزم الأمر. ولم يضيعوا وقتهم في الحديث عن الغزو الفكري للغرب وسوى ذلك من المناقشات البيزنطية العقيمة التي طالما شغلتنا نحن المثقفين العرب. قلت في تلك المداخلة إننا بحاجة إلى ترجمة آلاف المصطلحات إلى اللغة العربية. فمعظم مفاهيم علم الاجتماع، أو علم النفس والتحليل النفسي، أو علم الانتروبولوجيا، أو علم التاريخ الحديث، أو علم الابستمولوجيا، هذا ناهيك عن الفلسفة غير المعروفة في لغتنا العربية حتى الآن، وبالتالي فالباحثون العرب مدعوون في السنوات القادمة لاشتقاق مقابلات عربية لكل هذه المصطلحات الأجنبية. وهذه عملية ليست باليسيرة، إنما تتطلب منا بذل جهود مضنية وحقيقية. وأحياناً ننجح في نحت المصطلح أو اشتقاقه وأحياناً نفشل. وفي أثناء ترجمتي لأعمال محمد اركون على مدار أكثر من ربع قرن، عانيت كثيراً من هذه المشكلة: أي مشكلة اختراع مصطلحات جديدة في اللغة العربية لكي تقابل المصطلحات الفرنسية.

لكن هذه مسؤولية مراكز البحوث والترجمة العربية كلها لا مسؤولية شخص واحد. إنها مسؤولية جماعية لا فردية من دون أن يعني ذلك إنكار أهمية الجهود الفردية. عندما ننجز هذه العملية تصبح لدينا مكتبة كاملة في كافة العلوم ولا يعود طلابنا مضطرين لمتابعة دراساتهم العليا في اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية. وعندئذ تصبح لغتنا لغة علم وفكر وفلسفة وليس فقط لغة أدب وشعر ونثر ودين وفقه فقط.. وهكذا تستعيد أمجادها التي كانت لها إبان العصر الذهبي من عمر الحضارة العربية الإسلامية.

نعم، إن معركة الترجمة قد ابتدأت ولن تنتهي عما قريب، وينبغي العلم بأن لغتنا العربية سوف تخرج من هذه العملية أكثر صحة وشباباً وغنى وقدرة على مواجهة الهجمة الشرسة للغات الأجنبية التي تريد تهميشها، بل والقضاء عليها إذا أمكن. لذا لزم علينا دق ناقوس الخطر من هنا، من تونس الخضراء، للدفاع عنها وحمايتها.

فتحية إذن إلى قابس والجنوب التونسي وواحات النخيل.