استقلال كوسوفو والجيوبوليتيك الروسي

TT

ترسيم الحدود، او تعديلها، هو فعل جيوبوليتيكي وبامتياز. فهو يؤدي إلى التعديل في موازين القوى. هناك رابح، كما هناك خاسر. هناك فعل ورد فعل.

تُعتبر منطقة ما وبلد ما مهمين جيوبوليتيكيا عندما تتوافر الامور الآتية: الموقع وأهميته، الموارد الطبيعية وأهميتها الاستراتيجية، كما الدور الذي تلعبه هذه المنطقة او البلد في الاستراتيجيات الكبرى للقوى العظمى. وقد لا تنطبق كل هذه الشروط على كوسوفو. لكن الاكيد، ان نتائج استقلال كوسوفو، هي التي سوف تتظهر جيوبوليتيكيّا. فقد تكون كوسوفو مرحلة من مسار طويل، كما قد تكون نقطة تحوّل في منطقة البلقان. وما على الوقت إلا ان يُظهر ذلك.

عندما يُعاد رسم حدود الدول، فهذا يعني نهاية حقبة وبداية حقبة جديدة. رُسم الشرق الاوسط بعد نهاية الحرب الاولى. كما رُسمت القارة السمراء، عندما قرّر الكبار ذلك وحسبما شاؤوا ورغبوا.

أتى رسم الغرب لدول العالم، على اساس الوحدة السياسية التي هو كان قد ابتكرها، وكان له تجارب معها لأكثر من 400 سنة، الا وهي «الامة ـ الدولة».

وبذلك، تجاوز الغرب الفوارق الاتنية والدينية والمذهبيّة عندما اقر رسم الحدود. وبذلك، يكون من جهة قد ابتكر امما ـ دولا، وفي الوقت نفسه حضّر الارض لصراعات اتنية ودينية ومذهبية قد لا تنتهي في المدى المنظور.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، يتذكر رئيس وزراء بريطانيا لويد جورج عقب انتهاء الحرب العالمية الاولى ان كليمنصو سأله عما تريده بريطانيا من فرنسا في الشرق الاوسط. فما كان من لويد إلا ان قال وبسرعة: «نريد الموصل جزءا من العراق، كما نريد فلسطين من بيرشيبا وحتى دان». وكما طلب لويد بسرعة، رد كليمنصو موافقا وبسرعة كبيرة ايضا. هذا مثل عن طريقة رسم الامم بين القوى الكبرى المنتصرة.

تشكّلت يوغوسلافيا عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. أي بعد نهاية نظام عالمي قديم، وتشكّل فوري لنظام جديد أتى بعد الاتفاقات السرية في يالطا.

واليوم، ينفرط عقد هذه الدولة، أيضا بعد سقوط نظام عالمي ثنائي ابان الحرب الباردة، وبدء تظهر نظام عالمي لم تتّضح معالمه حتى الآن. من هنا الانفراط المتدرج ليوغوسلافيا. فالاتحاد السوفياتي كان قد سقط طوعا، وليس بعد حرب مدمّرة كما حصل مع هتلر. كذلك، لم تكن هناك مؤتمرات سريّة بين الرابحين لتقسيم تركة القوى الخاسرة. لذلك اتّسمت مرحلة ما بعد سقوط الدب الروسي بعودة الشعور القومي والاتني.

ومن استطاع من دول اوروبا الشرقيّة الاستقلال دون مشاكل، فهو قد فعل ذلك. فمنهم من قسّم واستقلّ كما حال، تشيكوسلوفاكيا. ومنهم من تفتّت، والآن يُعلن الاستقلال كحال كوسوفو. وإذا اتى رسم الحدود بموافقة كل القوى الكبرى كما حصل في يالطا، فهذا امر جيّد يُبشّر بمرحلة جديدة سلميّة مستقرّة. أما إذا اتى رسم الحدود في ظل خلافات اساسية بين الدول الكبرى، فهذا نذير شؤم قد يحمل معه صراعات وحروبا كثيرة.

هكذا هو حال كوسوفو. فقد اعترفت بها أهم دول اوروبا، اي فرنسا، المانيا، بريطانيا. ولم تعترف بها اسبانيا مثلا. كذلك عارضت صربيا بطبيعة الحال، كما رفضت روسيا والصين.

ترفض اسبانيا الاعتراف بكوسوفو، كي لا يكون هناك سابقة تشجّع انفصال اقليم الباسك عنها. كذلك، ترفض الصين الاعتراف بالإقليم، لان لها هواجسها في ما خص التيبت وإقليم جيانغ جينغ الغربي المسلم، بالإضافة الى وضع تايوان.

لكن الاكيد، ان التأثيرات الاكثر سلبيّة سوف تكون على روسيا. فهي صاحبة رد الفعل، بعدما كان الفاعلون كلاً من اميركا، فرنسا، المانيا وبريطانيا. لكن لماذا؟

ـ لا تزال مقولة الامبراطورة كاترين الكبرى قائمة وهي: إن امن الامبراطوريّة الروسيّة واستقرارها يقومان على التوسّع الجغرافي. أي الامن عبر التوسّع. من هنا المساحة الكبيرة لروسيا اليوم.

ـ يُعتبر المحيط المباشر لروسيا الاهمّ من حيث الامن القومي. والمقصود بذلك، هو تلك الدول التي تشكّل الطوق المباشر حول روسيا، من الغرب، إلى الشرق ومن الشمال الى الجنوب.

ـ عادة، تكون روسيا في احد الاوضاع التاليّة: إما حرب اهليّة (الثورة البلشفية)، إما تحت الاحتلال (المغول، نابوليون، هتلر)، إما تحت حكم دكتاتوري (ايفان الرهيب وستالين). وأخيرا وليس آخرا، إما في حالة استرداد الداخل والموقع العالمي، وهي حال فلاديمير بوتين اليوم.

ـ تعتبر كوسوفو مهمّة لان روسيا تريد استرداد الدور مع بوتين. وإن اي تردد او فشل، قد يطيح بالمشروع ككل.

ـ صعد نجم بوتين بسبب صورة الضعف عند يلتسين تجاه الغرب، وخاصة بسبب صربيا خلال حرب الناتو عليها. فهل تكون كوسوفو سبب صعود بوتين، وهي نفسها سبب سقوطه؟

ـ تأتي مسألة كوسوفو وبوتين في آخر عهده حضّر بديلا صُوريّا له. كذلك، اتت كوسوفو وروسيا في مرحلة استعادة مركزها العالمي، خاصة بعد النمو الاقتصادي بفضل ارتفاع سعر النفط.

ـ قد لا يكون استقلال كوسوفو حيويّا لروسيا بدرجة عاليّة. لكن السابقة بحدّ ذاتها، هي خطيرة على وحدة الكومنولث الروسي. وصحيح ان روسيا كبيرة جغرافيا، كما هي غنيّة بالموارد الطبيعيّة. لكن الاكيد، ان المشكلات الديموغرافيّة الروسية سوف تكون الاخطر على البلاد ، علما أن عدد سكّان روسيا يتراجع سنويّا بين 500000 و800000 نسمة. وهذا امر، سوف ينعكس سلبا على موقع روسيا في النظام العالمي للاسباب التالية:

ـ عدم القدرة على السيطرة على سيبيريا حيث الثروات، وذلك في ظلّ صعود التنيّن الصيني، والذي قد يهدد المصالح الروسية، في سيبيريا كما في آسيا الوسطى.

ـ قد تُشجّع هذه السابقة على تفتّت الكومنولث الروسي على المستوى المايكرو، داغستان، الشيشان، انغوشتيا، شركيسيا، كما ساخيا وهي الاخطر على الوحدة الروسيّة، كونها تشكّل المِعبر بين القلب الروسي وسيبيريا.

ـ أخيرا وليس آخرا، اعترفت اهم دول في العالم بكوسوفو، وهي تعرف مسبّقا ان روسيا ترفض في الاساس الانفصال. وهذا امر يدل وبشكل واضح على نظرة الغرب وتقييمه لروسيا اليوم. سوف تستعمل روسيا كل ما تملك من اوراق للرد. فالتراجع اليوم قد يعني السقوط النهائي لروسيا. فأين سيكون الرد؟

* سوف يكون أولا في مجلس الامن عبر استعمال الفيتو لمنع الشرعيّة الدوليّة

* من المستبعد ان تلجأ روسيا إلى العمل العسكري المباشر، نظرا لخطورته

* قد يكون الرد في المحيط المباشر لروسيا: اوكرانيا، الحركات الانفصاليّة في جورجيا، الاقليّات الصربيّة في كوسوفو وغيرها، الاقليّات الروسيّة في الدول المحيطة بروسيا، او في بعض دول البلطيق مثلما حصل مع استونيا (حرب الكترونيّة على مؤسساتها).

* وأخيرا وليس آخرا، سوف تبحث روسيا عن الامكنة التي تشكّل تهديدا للمصالح الغربيّة خاصة الاميركية لتتدخّل فيها. فهل هناك اليوم اهم من الشرق الاوسط؟ وهل هناك اكثر اهمية لأميركا من الموضوع الايراني؟ العراقي؟ السوري؟

يقول الخبراء في الشأن الروسي، إن سبب غياب روسيا عن السمع خاصة في مسألة حيويّة ككوسوفو، قد يعود الى أمرين مهمّين هما: إما هناك خلاف داخلي في الكرملين حول طريقة الردّ وحجمه. أو ان يكون الكرملين في مرحلة الاعداد للرد. فهل سيكون هناك رد؟ ربما، لان العكس قد يؤكّد ما قاله الرئيس البيلاروسي حول تأخّر روسيا كثيرا في الرد على المسألة اليوغوسلافية، لكن ليس منذ اليوم، لا بل منذ عقد من الزمن، عندما خاض الناتو حربه المدمّرة على صربيا دون ان تحرك روسيا ساكناً.

* عميد متقاعد في الجيش اللبناني وباحث أكاديمي