المقاومة في العراق: الجيل الثالث

TT

يمكن تقسيم المقاومة في العراق الى ثلاثة اجيال، رغم التداخل الكبير بين هذه الاجيال الى درجة يصعب فيها الفرز فيما بينها، وهذه الاجيال الثلاثة هي:

1ـ الجيل الاول: جيل الاندفاع الوطني العاطفي.

2ـ الجيل الثاني: جيل التنظيمات المسلحة.

3ـ الجيل الثالث: جيل القتال والكتمان.

في الواقع، ان ظهور هذه الاجيال الثلاثة، خلال فترة قياسية، لا تزيد عن الخمس سنوات، دليل على التطور الكبير في البنية الهيكلية والتنظيمية للمقاومة في العراق، ووصولها الى مرحلة النضج في وقت مبكر جدا. قياسا بالفترات الزمنية، التي استغرقتها المقاومات الاخرى في العالم مثل المقاومة في الجزائر وفلسطين وفيتنام، ولا بد من وقفة مكثفة لتوضيح مراحل التطور التي تشهدها المقاومة في العراق، من خلال تسليط الاضواء على الاجيال الثلاثة.

1ـ جيل الاندفاع الوطني والعاطفي

وهو الجيل الذي انطلق منذ الايام الاولى للاحتلال الامريكي للعراق في التاسع من ابريل 2003، وبينما اندفع الكثير من الشباب لتهيئة مستلزمات مقاتلة الاحتلال، من خلال جمع الاسلحة من مخازن الجيش العراقي السابق حيث كانت هناك الاف المخازن (1800 مخزن عائدة للحرس الجمهوري) اضافة الى مخازن الجيش النظامي ومخازن الحرس الخاص ومخازن الامن الخاص ومخازن جيش القدس والتشكيلات الاخرى. وتم تخزين الاسلحة في عشرات الآلاف من المخازن تحت الارض وفي اعماق الصحراء، وشارك خبراء التخزين في تلك العمليات للمحافظة على صلاحية تلك الاسلحة، وعدم تعرضها للتلف اذا ما تم خزنها بطريقة بدائية، وعن كميات تلك الاسلحة، قال الفريق اول ركن سيف الدين الراوي (المطلوب رقم 7 على قائمة الـ 55 الشهيرة) وهو قائد الحرس الجمهوري في مقابلة تلفزيونية ان اسلحة الجيش العراقي السابق تكفي المقاومة في العراق لخمسين سنة. وهذا كلام خبير وقائد وعسكري مطلع على دقائق الامور، في ذات الوقت الذي بدأت فيه عملية تكديس وخزن السلاح، انطلق بعض الشباب المقاوم وبدون عملية تنظيم واسعة الى استهداف القوات الامريكية، فسقط احد جنود المارينز بنيران مقاوم في منطقة الاعظمية، بعد ثلاثة ايام من الاحتلال اي في يوم (12/4/2003)، وفي 18/4/2003، نفذ مقاومون هجوما واسعا على دورية امريكية في منطقة نفق الشرطة بجانب الكرخ من بغداد في الحي الغربي منها، وتم احراق همر امريكية وقتل جميع من كانوا بداخلها، وتبنى هذا الهجوم في وقت لاحق جيش الراشدين في ادبياته المنشورة على الانترنت.

بعد ذلك ازدادت اعداد هذا الجيل وانخرط الكثيرون في تنظيمات ومجاميع لتشكل النواة الاساسية للكثير من الكتائب والفصائل، ويمكن القول ان هذا الجيل، لم يكن منظما بصورة جيدة، لكن الدافع الوطني كان أكبر من التنظيم الاداري والعسكري، وإصرار المقاتلين على مقاومة المحتل وطرده من العراق عجل في ظهور الجيل الاول بهذه السرعة الفائقة، رغم الانكسار النفسي الكبير الذي عصف بالعراقيين بعد احتلال بغداد.

2ـ جيل التنظيمات المسلحة

يمكن القول ان الجيل الثاني هو جيل التنظيمات المسلحة، ويمثل الاساس الرصين للمقاومة في العراق، وهو المرحلة المتطورة للجيل الاول، فقد تشكلت هيئات ركن لغالبية الفصائل، واستفادت هذه الفصائل من معركة الفلوجة الاولى التي حدثت في ابريل 2004، وخرجت بدروس كبيرة، من اهمها وضع الخطط العسكرية المتكاملة، والشروع ببرامج لتطوير الاسلحة المتوفرة من مخازن الجيش العراقي السابق، وشمل التطوير والتحوير الاسلحة التي تستهدف المروحيات الامريكية، وتطوير الاجهزة المتحكمة بالعبوات الناسفة، وتمكن خبراء بعض الفصائل من اسقاط طائرات التجسس المسيرة بدون طيار من خلال تطوير الامكانات الالكترونية، ووصل الامر الى اعلى درجاته، عندما تغلبت امكانات المقاومة على قدرات البنتاغون، وتمثل ذلك بالقدرة على التمويه بدقة كبيرة على اكبر وأضخم واهم كاسحات الالغام المتطورة، التي لم تتمكن من اكتشاف وجود الالغام، ما جعل هذه الكاسحات هدفا مباشرا للعبوات، كما ان العديد من كبار قادة الجيش الامريكي قتلوا بعد ان ظنوا ان الكاسحات ستحميهم، لكن المقاومة تجاهلت الكاسحات، لتستهدف القائد الامريكي، (هناك عمليات وبيانات مصورة على الانترنت توثق لتلك العمليات) وبثت بعضها الفضائيات العربية.

لم يتوقف الامر عند التدريب العسكري المتقدم وتطوير الاسلحة، بل برز الجهد الاستخباري الذي اخترق قوات الاحتلال، واتضح ذلك من استهداف العربات المصفحة التي تقل كبار القادة من بين رتل طويل من العربات وقد قتل بهذه الطريقة العديد من قادة الجيش الامريكي (من بينهم قائد منطقة شمال بغداد، وقائد منطقة جنوب بغداد قتلا عام 2007).

كما خرجت الفصائل الى وسائل الاعلام من خلال مواقع على الانترنت وظهور متحدثين باسم بعض الفصائل في وسائل الاعلام (د.ابراهيم الشمري باسم الجيش الاسلامي، د.عبد الله سليمان العمري متحدث باسم كتائب ثورة العشرين، ابو الوليد العراقي الناطق الاعلامي لـ(جيش الراشدين) وقد قتل اواخر عام 2007 في معركة شرسة مع قوات الاحتلال الامريكي، ود. خضير المرشدي المتحدث باسم حزب البعث اضافة الى متحدثين آخرين باسم بعض الفصائل، كما شهدت هذه المرحلة ظهور جبهات تضم العديد من الفصائل والكتائب والجيوش.

ان ما يميز هذا الجيل من المقاومين، هو الانتشار الواسع في مختلف مناطق العراق وتكثيف الهجمات ضد القوات الامريكية (وصلت في بعض الاحيان الى مائتي هجوم في اليوم الواحد)، والقدرة على المناورة العسكرية والدقة في اصابة اهدافها.

3ـ جيل القتال والكتمان

انا اعتقد ان هذا الجيل (القتال والكتمان)، يمثل اهم مراحل المقاومة في العراق، لان الجيلين السابقين، لم يعتمدا الكتمان، رغم وجودها في جميع الجوانب ذات الطبيعة الأمنية، الا ان الافراد المنضوين تحت لواء الفصائل والجيوش والسرايا والكتائب، لم يهتموا بالأمن الشخصي، بسبب ان غالبية المناطق التي تنشط فيها فصائل المقاومة، لم تكن مخترقة من قبل ادارة الاحتلال، بسبب الطبيعة الاجتماعية لأبناء العشائر والقرى، مع وجود رغبة للتفاخر الشخصي، وهذا خطأ فادح، وقد ساهم هذان العنصران، في معرفة بعض المقاتلين في الكثير من المناطق، واتضحت خطورة ذلك، بعد ان انشأت قوات الاحتلال ما يسمى بـ(مجالس الصحوات) مستغلة ضعاف النفوس، وسرعان ما قدم البعض من العاملين في هذه المجالس (المكلفة لإسناد قوات الاحتلال) المعلومات عن رجال المقاومة، فأصبحوا هدفا مباشرا لبعض عناصر الصحوات وللقوات الامريكية.

لا شك ان ذلك قد اوقع خسائر بين المقاومين، لكن في الوقت نفسه ساهم في التنبيه الى خطورة الشرخ الامني، الذي رافق الجيلين الاول والثاني من المقاومة في العراق، وأعطى درسا، لا بد ان قادة الفصائل والجيوش والسرايا قد وضعوه في الأولويات، لتبدأ مرحلة الجيش الثالث، الذي اعتقد انه سيتشكل باتجاهين، الاول سيكون عبارة عن انبثاق فصائل جديدة تعتمد الكتمان التام والسرية المطلقة في العمل الميداني، والثاني سيكون من حصة الفصائل الفاعلة في الميدان، التي ستشكل جيلا جديدا يتحرك ويعمل بسرية وكتمان، مع توفر جميع المستلزمات الاخرى من تدريب وهيئات الركن وتطوير الاسلحة والجهد الاستخباري والحشد الاعلامي والسياسي، وبذلك فان الجيل الثالث (القتال والكتمان) سيمثل المرحلة الناضجة والمتقدمة في المقاومة في العراق، الامر الذي سيمكنها من تنفيذ اقوى وأشرس الضربات ضد قوات الاحتلال الامريكي، ما يسهم بقوة في افشال محاولات اختراق البنية الاجتماعية العراقية، ويسرع في اخراج القوات الامريكية من العراق، وإعادة العراق الى جميع العراقيين دون استثناء.

* كاتب عراقي

[email protected]