الأقليات المسلمة بين الاتصال والانفصال

TT

أثار استقلال كوسوفا جدلا في العالم العربي، فتح الباب للحديث عن موقف الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية، وحق الأقليات الموجودة في المجتماعات العربية والإسلامية في أن تعامل بالمثل، فيكون لها بدورها أن تطالب بحريتها في تقرير مصيرها وتستقل، وكان مقال الدكتور تركي الحمد الذي نشر في هذا المكان يوم الأحد الماضي (9/3) من تجليات ذلك الحوار. إذ اختار له عنواناً دالاً عبر فيه عن موقفه هو: ويا ليتهم لم يستقلوا. وفيه انحاز إلى الرأي القائل بأن الأقليات المسلمة يجب أن تبقى في إطار الدول التي يعيشون في ظلها لأنهم سيكونون أفضل فاعلية وتأثيراً في الحياة العامة، طالما بقوا في دولة ديمقراطية علمانية تقوم على أساس المواطنة لا على أساس العرف أو المعتقد. وضرب لذلك مثلا بالهند التي لو بقي كل المسلمين فيها ولم تنفصل جماعة منهم لتنضم لباكستان التي انفصلت عنها بنجلاديش في وقت سابق، لكان عدد المسلمين «الهنود» الآن 450 مليون نسمة، ولكان لهم جميعاً شأن آخر، أفضل كثيراً من الوضع القائم الآن.

رأيي أن المسألة أكثر تشابكاً وأعقد من أن توضع لها قاعدة واحدة يمكن أن تسري في كل الأحوال. أعني أننا لا نستطيع أن نطالب كل الأقليات المسلمة بأن تستسلم للأوضاع التي تعيش في ظلها، لأن الأمر ربما اختلف من بلد إلى آخر. فقد يكون بقاؤهم في إطار المجتمع الذي يعيشون فيه أفضل لهم، وقد يكون استقلالهم ضرورة أو حلاً لا مفر منه. وحتى أقرِّب المسألة إلى الأذهان فلعل البعض يذكر أنني تحفظت على استقلال شيشينيا عن روسيا. لأنها حين كانت ضمن الاتحاد السوفيتي ربطت كل مصالحها الاقتصادية بروسيا، فضلاً عن أن عدد الشيشانيين محدود (حوالي مليون ونصف المليون)، ناهيك عن أن بلدهم لم تتوافر له الإمكانيات والموارد الاقتصادية التي تمكنه من أن يقيم نظاماً مستقلاً. وفي ظل ذلك الضعف في موازين القدرة الاقتصادية والقوة العسكرية لم تكن هناك مصلحة للشيشانيين في الاستقلال. وكانت النتيجة كما رأينا أن روسيا سحقت ما أسمته بالتمرد ودمرت العاصمة «جروزني» وأعادت البلاد عشرات السنين الى الوراء. صحيح أنني وقفت إلى جانب الشيشانيين فيما بعد. إلا أن دافعي الى ذلك أنني رأيتهم يبادون ويفترسون من قبل القوات الروسية. وكان لا بد من نصرتهم وهم مظلومون ويحتاجون إلى الإغاثة والعون رغم أن أخطاءهم أسهمت في المصير الذي تعرضوا له.

من جانب آخر، فإنني أيدت استقلال البوسنويين بعد أن انفرط عقد الاتحاد اليوغوسلافي، وأعلنت بعض جمهورياته الاستقلال. كرواتيا والجبل الأسود. وأصبح البوسنويون مخيرين بين أن يقبعوا تحت رحمة الصرب الذين يكنون لهم عداءً تاريخياً شديداً، أو يعلنوا استقلالهم. ساعدهم على ذلك أنهم يمتازون ثقافياً عن الصرب، ثم إن لديهم من الكتلة السكانية والموارد الاقتصادية التي تمكنهم من أن يقيموا دولتهم المستقلة، ففعلوها، ودفعوا ثمناً باهظاً لاستقلالهم الذي نشهده الآن.

في هذا الصدد أزعم أن هناك مجموعة من المبادئ الاسترشادية التي يمكن الاهتداء بها في التعامل مع هذا الملف ومنها ما يلي:

* إن الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية يجب أن تحترم النظم القانونية والأوضاع الدستورية القائمة في تلك البلدان. وهي في ذلك ليست مطالبة بأكثر من أن تحافظ على دينها وشعائرها، وأن يعامل أفرادها كمواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات، وإذا ما حدث انتهاك لحقوقهم أو عدوان عليها، فعليهم أن يسلكوا السبل القانوني والشرعي لرد ذلك العدوان، وأن يحصروا نضالهم في هذا الإطار حتى يحققوا مرادهم.

* إن المعيار في الإبقاء على الاتصال أو اللجوء إلى الانفصال، يحتكم فيه إلى أمرين أولهما أمان المسلمين على عقائدهم، وثانيهما المقابلة بين المصالح والمفاسد المترتبة على هذا الوضع أو ذاك.

* إن المسلمين من حقهم أن يقيموا مجتمعهم الذي تسود فيه قيم دينهم وتطبق شريعته. لكن ممارسته ذلك الحق لها شروطها التي يجب أن تستوفى قبل الإقدام على كل ذلك. وأول هذه الشروط وأهمها أن تتوافر للمسلمين أغلبية عددية تنحاز إلى ذلك الاختبار. وفي النهج النبوي أن المسلمين كانوا أقلية في مرحلة، وبعد التبليغ وانتشار الدعوة وهي المرحلة التي استغرقت أكثر من عشرين عاماً، أقيمت الدولة. وخلال تلك الفترة ظلت كل رموز الشرك باقية لم تمس، بما في ذلك الأصنام في الكعبة المشرفة. في كل الأحوال فالمهم هو أن يكون النموذج الإسلامي هو اختيار الأغلبية الحر الذي يتم التثبت منه من خلال الأساليب الحديثة المتعارف عليها.

* إذا ما توافرت للمسلمين الأغلبية فمن حقهم أن يقيموا المجتمع الذي يتطلعون إليه، شريطة ألا يخل ذلك بحقوق الأقلية واحترامها. والعكس صحيح أيضاً. بحيث إذا توافرت الأغلبية لغير المسلمين، فينبغي أن يحفظ للأقلية المسلمة حقوقها وكرامتها. وإذا أجزنا للمسلمين أن يدافعوا عن حقوقهم المهدورة بكل السبل القانونية في المجتمعات غير المسلمة، فإننا ينبغي أن تقر الحق ذاته لغير المسلمين في المجتمعات الإسلامية.

* إن بقاء الأقليات المسلمة في المجتماعت الغربية له فوائده لا ريب، إذ بوسعهم أن يسهموا في إثراء تلك المجتمعات بعطائهم الاقتصادي والثقافي. ولو أنهم قدموا نموذجاً طيباً للدين الذي ينتمون اليه، فقد يصبحون رسلاً تبلغه الى الناس. فإذا لم ينتفعوا به، فإنهم على الأقل سوف يبادلونه التقدير والاحترام. ولا يغيب عن البال أن الإسلام انتشر في السواحل الآسيوية التي تمتد الى جنوب الصين، بواسطة تلك النماذج المشرفة التي فتحت القلوب قبل ان تفتح البلدان.

* بقيت نقطة أثارتها بعض الكتابات التي تعرضت للموضوع، وبينها مقال الدكتور تركي. وهي التي كررت الإشارة إلى الربط بين العلمانية وبين الديمقراطية والتعددية الثقافية. كما كررت هجاء فكرة إغلاق المجتمعات على أساس العرق أو المعتقد. وهو موقف يحتاج إلى مراجعة. ذلك أن الربط بين العلمانية والديمقراطية والتعددية الثقافية غير صحيح علمياً أو تاريخياً. فالعلمانية في تعريفها العلمي موقف فكري يعتمد في رؤية الواقع والعالم على المرئي والمحسوس. الأمر الذي يضعف الغيب عند البعض ويلغيه تماماً عند آخرين. ولذلك رأينا علمانية متصالحة مع الدين (كما في إنجلترا) وأخرى بحاجة له (كما في فرنسا). بالتالي فهي مشتقة من العالم. والنطق الدقيق له هو العالمانية وليس العلمانية. وفي اللغة الأردية يترجمون المصطلح الى «الدنيوية» وهي ترجمة دقيقة للكلمة الإنجليزية ومرادفها في اللغة الفرنسية.

صحيح أن بعض المجتمعات العلمانية تتمتع بدرجة عالية من الديمقراطية والتعددية، لكن العكس هو صحيح أيضاً. فالنازية والفاشية والشيوعية منتجات علمانية بامتياز. كما أن أكثر العلمانيات العربية هي أكثرها استبداداً وتغييباً للديمقراطية والتعددية الثقافية والسياسية.

من ناحية أخرى فإنني أتفق مع هجاء إغلاق المجتمعات على أساس العرق أو المعتقد. لكن الأمانة العلمية والتاريخية تفرض علينا أن نقرر بملء الفم أن المجتمع الإسلامي ما كان يوماً مغلقاً على العرق أو المعتقد. وخلية الإسلام الأولى كانت إطلالة مبكرة على التعددية العرقية. إذ ضمت في حينها صهيب الروسي وسلمان الفارسي وبلال الحبشي. ثم إن عقيدة الإسلام هي التي قدرت مذ تنزولت كرامة الإنسان بغض النظر عن دينه أوعرقه «ولقد كرمنا بني آدم». وهي التي انفردت بالاعتراف بالديانات السماوية الأخرى، التي لا يزال أتباعها يرفضون الاعتراف بالدين الإسلامي حتى هذه اللحظة. وبوسع أي باحث أن يجد نموذجاً لكل ذلك في الخبرة التاريخية الإسلامية. وفي سجل الحضارة الإسلامية التي شارك كل هؤلاء فيها. وإذا كانت هناك حقب أخلت بما أرسا له الإسلام في هذا الصدد، فإنها ظلت لحظات استثنائية وبقعاً سوداء يتعذر تعميمها على التاريخ الإسلامي كله ـ والله أعلم.