حديث الصمت العربي؟!

TT

حينما وقعت هزيمة يونيو 1967 كنت طالبا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعضوا في منظمة الشباب الاشتراكي التابعة للاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي الحاكم في مصر وقتها تحت القيادة «التاريخية» للرئيس «الخالد» جمال عبد الناصر. وبعد وقوع الهزيمة لم نعرف فقط أنها لا تزيد عن كونها «نكسة»، بل سار في المنظمة والتنظيم منطق آخر يقول إن ما حدث كان انتصارا وكبيرا أيضا. وكانت الحجة على ذلك تسير على النحو التالي: لقد قامت إسرائيل بالعدوان على مصر ليس بهدف احتلال أراضيها وإنما لإطاحة النظام الاشتراكي التقدمي القومي؛ ولما كان النظام لا يزال باقيا بل لا يزال قادرا على إعادة البناء، فإن معنى ذلك أن العدو فشل في تحقيق أهدافه، وطالما فشل العدو فقد أصبحنا ـ منطقيا ـ منتصرين!

وكان هذا المنطق المعوج هو الذي دفعني للخروج من منظمة الشباب الناصري والبحث في جنبات الفكر السياسي عن أفكار أخرى؛ ولكنني لم أكن أعرف يومها أن ذلك هو المنطق الحاكم في المدرسة الناصرية وحدها، بل في كل المدارس الراديكالية والثورية في المنطقة العربية. فقد كان ذلك هو المنطق الذي روج له حزب البعث في سوريا، كما كان هو الحاكم لحزب البعث في العراق بعد حرب تحرير الكويت حيث خرج صدام حسين منتصرا من أم المعارك لأن «الأعداء» لم يكن هدفهم تحرير الكويت وإنما رأس النظام وطالما بقي الرأس، فإن المقاومة مستمرة والنصر هو جائزة المقاومين!

ولم يكن مثل هذا المنطق خلاصا من الهزيمة وحدها، ولكنه كان خلاصا من كل مسؤولية تجاهها سواء فيما تعلق بدخول معركة خاسرة، أو بتبرير حجم التضحيات التي تدفعها الأوطان من أجلها. ففي القاهرة ودمشق وبغداد، لم يكن إغلاق خليج العقبة قرارا خاطئا، أو أن احتلال الكويت كان قرارا فاسدا، وإنما كانت حجة يستخدمها الأعداء لتبرير قرار بالعدوان اتخذوه من قبل. وفي صيف عام 2006 عندما قام حزب الله بخطف الجنود الإسرائيليين من داخل الأراضي الإسرائيلية، ومن بعدها بدأت الحرب قام السيد حسن نصر الله فورا بالإعلان عن أن العدوان الإسرائيلي لم يكن رد فعل لعمل قام به، بل كان تعبيرا عن نية مبيتة لشن حرب على لبنان. وبعد الحرب أعلن الانتصار الفوري لأن حزب الله وقيادته بقيا في القيادة حتى ولو جرى ما جرى من تدمير، ومن شلل في النظام السياسي، وما يزيد على الف من القتلى، وجاء الاحتلال الدولي لأرض لبنان كبديل للاحتلال الإسرائيلي. وفي حرب غزة الأخيرة منذ أيام، فإن الأمر لم يكن مختلفا إلا في التفاصيل، وفي النهاية أعلنت حركة حماس عن انتصارها لأنها لا تزال باقية في موقع القيادة، ولا تزال قادرة على إطلاق الصواريخ. والحقيقة هي أنه إذا كان العرب وقياداتهم الثورية قادرين على تحقيق كل هذه الانتصارات، فلماذا تسود هذه الحالة من الاكتئاب في العالم العربي؟

المشكلة هنا أن القوى «المنتصرة» المختلفة لا تكف فور بدء المعركة عن الصراخ والإدانة للصمت العربي إزاء المذابح والجرائم الإسرائيلية؛ وأكثر من ذلك، فإنها لا تكف عن إدانة «التواطؤ» بالصمت أو بالفعل مع العدو الإسرائيلي أو الأمريكي حسب نوع المعركة ونوع المتحدث. ولما كان العالم العربي يمتلك الآن أكثر من 400 محطة تلفزيونية فضائية غير المئات من الصحف والإذاعات، فإن الحديث عن الصمت يصبح مفارقا للحقيقة بشكل كبير. وخلال معركة غزة، كما كان الحال في المعارك، قبلها، كانت صور المجزرة واضحة على مدى الليل والنهار، وكانت الدماء تغلي في كل النفوس العربية، فلم تكن المسألة صمتا ولكن ما الذي يجب عمله على وجه التحديد. فالذين بدأوا المعركة بإغلاق خليج العقبة أو باحتلال الكويت أو بخطف الجنود الإسرائيليين أو بإطلاق الصواريخ لم يحدث أبدا أن تشاوروا مع باقي الأمة غير الصامتة حول الحرب المقبلة، بل أكثر من ذلك أنه في أغلب الأحوال، فإن العلاقات بين النظام الراديكالي أو الحركة الثورية أو الجماعة المجاهدة تكون في أسوأ حالاتها مع كل الدول والنظم العربية حيث تتهمها بالعمالة تارة للاستعمار والتواطؤ تارة أخرى مع إسرائيل. ومع ذلك، فإن المطلوب من هذه النظم ساعة الجد وبعدما يحمى وطيس القتال أن تترك كل مشاكلها وحياة مواطنيها وتدخل فورا إلى المعركة بدون استعداد أو إعداد لأن البيانات وحدها بالطبع لا تكفي، والشجب في الإذاعة، واللجوء إلى مجلس الأمن، من علامات الضعف والتآمر.

هنا يقع النظام العربي كله في مأزق عند كل معركة لم يشترك فيها ولم يبدأها، وباستثناء حرب 1948 وحرب أكتوبر 1973، فإنه لم يكن هناك تنسيق عربي يذكر، ليس لأن الدول العربية لا تريد التنسيق ولكن لأن القوى الراديكالية العربية لا تريد تنسيقاً وإنما جر واستدراج باقي الدول العربية إلى معارك غير متكافئة اختار زمنها وتوقيتها ومكانها آخرون. وحتى لا يكون الكلام على عمومياته، فإن الدول العربية المطلوب تورطها، والمطلوب رأسها، لا تزيد على مصر والسعودية بحكم الحجم والمسؤولية والدور الإقليمي والدولي والقدرة السياسية والعسكرية. ومما يعمق هذا المأزق أنه بعد أن تبدأ المعارك، وتنتشر صور المجازر والمذابح، وتعلو الصيحات عن «الصمت العربي» مهما كان الصراخ العربي مدويا، فإن أيا من القوى المسؤولة في العالم العربي لن تعلم أبدا ما الذي تريده القوى المقاتلة. فأحيانا يبدو الأمر كما لو كان أن حزب الله أو حركة حماس يريد من العالم العربي التدخل لوقف إطلاق النار أو عقد هدنة، فإذا ما بدأت الدول العربية بإجراء مساعيها، ينقلب الحال فورا مع القوى الثورية لكي تجعل هذه الجهود كما لو كانت وسيلة عربية للحرمان من النصر العظيم، ويجري التذكير فورا بالنصر الذي كان قريبا من القوات العربية عام 1948 وحرم العرب منه بسبب الهدنة.

النتائج الإستراتيجية للوضع العربي الراهن يمكن تلخيصها فيما يلي: أولاً أن القوى الثورية والراديكالية والجهادية تريد أن تقود حركة الأمة كلها، وتسيطر على قرارات الحرب والسلام من حيث الزمان والمكان. وثانياً، وبسبب هذه القيادة، فإنه ليس مطلوبا الكثير من مناقشة أفعال حزب الله أو حماس أو قرارات سوريا، فما على الدول والشعوب العربية فور نشوب المعارك إلا أن تلتحق فورا بالمعركة، وإلا اتهمت بالصمت والعجز العربي المشين. وثالثاً أن القضية ليست الجولان ولا فلسطين ولا مزارع شبعا، فكل ذلك قضايا، ويوجد أمام القوى السياسية المجاهدة التاريخ كله للتعامل معها وحلها، ولكن ما هو مطلوب الآن في التو واللحظة فهو رأس النظم العربية «المعتدلة» لأن الاعتدال يعني التوافق مع العالم بدلا من الخصومة معه، والتنمية بدلا من التخلف، والسلام بدلا من الحرب، والحياة بدلا من الموت. ورابعاً أن قصة «الصمت العربي» من أولها إلى آخرها ليست ناجمة فقط عن القدرة الفائقة للجماعات والنظم الراديكالية على المبادأة، واستخدام التطورات التي تفتعلها لكي تبتز الأمة كلها، ولكن لأن جماعة الاعتدال لم تنجح أبدا في وضع إستراتيجية بديلة تدافع عنها بثبات وإيمان لأنها مشغولة ومهمومة بقضايا كثيرة للبناء الداخلي والتعامل مع عالمٍ معقدٍ. وخامساً أن ذلك لا يمكنه أن يدوم وإلا انهد بناء المنطقة على رؤوس من فيها، وساعتها لن ينفع الندم!!.