الربعي.. الليبرالي الصدوق!

TT

أجده بعد تخطي عصر الآيديولوجيات، التي وصلت ذروتها معه مرحلة رفع السلاح، استقر إلى ليبراليته، تلك المفردة الملتبسة. كيف لإنسان مثله اعتاد على العقائد أن يتصالح مع اتجاه لا هو بالعقيدة ولا هو بالنظرية، لا هو بالحزب ولا بالحركة، لا قائد يقود ولا مال يُجبى من أعضاء! فعندما يُسأل أحمد الربعي، كونه أحد حملة ألوية الليبرالية في عالم محوط بألف سور، ما هي الليبرالية؟ يأتي الجواب: إنها التعددية، الانفتاح!

وربما كان عصر جماعة إخوان الصفا أكثر وضوحاً في تعريف الممارسة من عصرنا (القرن العاشر الميلادي)، وأنه تلقف البذرة من ذلك الزمن وتلك الأرض، عندما عرفوا دعوتهم: بأنها لا حركة ولا حزب، بقدر أنها فيض على طريقة ما دعا إليه الربعي ومجايلوه الليبراليون: «وبالجملة ينبغي لإخواننا أيدهم الله تعالى أن لا يعادوا علماً من العلوم، أو يهجروا كتاباً من الكتب، ولا يتعصبوا لمذهب من المذاهب، لأن رأينا أو مذهبنا يستغرق المذاهب كلها» (رسالة عِشرة إخوان الصفا).

أتذكر إلحاح محاور الربعي، صاحب برنامج «إضاءات» تركي الدخيل، في قناة «العربية» (2004) على ضيفه بذلك السؤال، لأنه لا إدراك لاتجاه سياسي أو فكري أو فني، ومنهج حياة عام أن يكون عائماً مثل الليبرالية. فمئات السنين من التحرك ضد سلطة أو جماعة لا بد أن يُفكر، قبل كل شيء، في القيادة والنظرية! والربعي لا يجيب إلا بجوهر الليبرالية: التعددية، وقبول الآخر في الدين، والمذهب، والسياسة..!

لا أظن أن ذرة الليبرالية علقت بوجدان الربعي من دراسة الفلسفة بهارفرد الأمريكية، فكم من دارس هناك عاد مفلسفاً تشدده بل مجدداً له. كذلك لا أظن أن السياسة الأمريكية وانفتاح المجتمع الأمريكي وتعدد فلسفاته كانت دليل الربعي إلى نهج إخوان الصفا، فهو لا يتردد في التصريح والاشتباك مع تلك السياسة عندما سقت ظاهرة التعصب، وقادت إلى خروج جماعة طالبان من قمقمها، ودعمت بناء عشرات (القواعد)، لا قاعدة بن لادن والظواهري فحسب! وما تحصده المنطقة من ذلك الزرع.

أصف أحمد الربعي بالليبرالي الصدوق، وقد جُرب صدقه، في إدارة وزارة التربية والإعلام أو كمندوب برلماني، وكاتب، ومحاور أو مناظر. ولم يبق قيد الإنذار القومي، ومشدوداً للتراث الثوري ليبرر مجازرَ بمستوى القبور الجماعية في الحالة العراقية، ويندفع مؤيداً باسم التحرير والعدو المشترك ساكتاً عن ظلم ذوي القربى. أتذكر جيداً حواره الشرس مع أحد المناصرين لتفجير مدرسة، وسوق بالعراق، بفعل أدب المقاومة، مثلما كان مناصراً من قبل لجلاد لم يرحم الدار ولا الجار!

أحفظ لأحمد الربعي مواساته لبلاد أخذت تسبح في دماء حارت العقول في تفسيرها، مثلما أحفظ له أمانيه المدعومة بقلقه وأعصابه، قد يختلط فيها صدقه وكذب الآخرين، ممَنْ يجدون في شعارات التحرير والمقاومة، مثلما كان يفهمها الربعي نفسه من قبل مع فارق صدقه وأكاذيبهم. فحقوق الإنسان، التي تبناها دارس الفلسفة ومؤسس منظمتها في الكويت، غير التي تاجر بها الآخرون، وما زالوا كذلك! تلك الليبرالية، التي يُراد لها أن تبقى لغزاً، وقد فتحت كوتها الدعوات الأمريكية، وأغلقتها في الآن نفسه.

لا أجد الربعي محبطاً، ولا أرى الشامتين يرفعون رؤوسهم، تشفياً حتى في مرضه، لو نجح سقوط النظام العراقي نجاحاً كاملاً، فمثله يدرك أن إعدام صدام حسين، ووجود انتخابات وبرلمان لا يعني نجاح ليبراليته، ولا يعني أنه يترك حذره من انقلابات السياسة الأمريكية، لكن ليس على طريقة الماضي، بل الزمن علمه أن تحقيق الليبرالية واحد من تبادل المصالح، شأنها شأن القضايا الكبرى الأخرى. وباختصار قوله: ان أمريكا ليست الملاك المانح بلا مقابل، بل لها وعليها! هذه فكرة الليبرالي الصدوق ببساطة، مع أنه كثير التشكيك في تنفيذ ما على أمريكا من واجبات.

كان غياب أحمد الربعي، وهو أحد العقلاء الشجعان القلائل الخالين من مصلحة أو غرور، خسارة لليبرالية على كل مستوياتها بالمنطقة. أقول هذا مع علمي أن ليبراليي جزر وصحارى ومياه الخليج في تنامٍ وتعاطٍ صائبٍ مع أحرج الظروف، أولئك الموصوفون، من قبل النخب الأخرى، بعدم مغادرة الصحراء، رمالاً وأفكاراً، أجد شأنهم شأن الفقيد يحفرون آثارهم حفراً، ولكن بلا مشاكسة صارخة، حفظاً وصيانة للبذر. لا أكتب مشدوداً إلى ليبرالية أستاذ الفلسفة بقدر ما أبهرني إخلاصه لها، في صحته ومرضه. إنه صوت اخترق جدراناً وسدوداً!

كان آخر لقاء مع الليبرالي الصدوق بأبوظبي، العام الماضي، بمناسبة معرض الكتاب وجائزة الشيخ زايد، ساهراً حتى الفجر يجادل مدافعة عن الليبرالية، مع عدم اكتراث بشبح الموت الحائم! ونحن على موعد معه في موسم المناسبتين لهذا العام.. ولكن!