رثاء.. على طريقتي الخاصة

TT

يوم الخميس الماضي علمت وصدمت بوفاة أخي أحمد الربعي، والمشكلة أنني أبعث مقدّماً عدّة مقالات دفعة واحدة، وبالصدفة نزل لي مقال يوم الاثنين، أذكر فيه أنني حلمت بوفاتي، ولا أدري ما هي حكاية ذلك الموت ـ خصوصاً عندما (يلعب معنا) ـ ؟!.. وهذه القصة القصيرة أقدمها كرثاء لذلك الرجل الفذ الذي خسرناه جميعاً، والذي كتبها شخص عادي يتذكر عندما كان طفلاً صغيراً، وكيف لفت نظره ذلك الجهاز العجيب الذي يُقال له (التلفون) في مراحل اختراعه واستعمالاته الأولى وانتشاره في بيوت الناس، وكيف أنه يندهش عندما يرى ويسمع والدته عندما تتكلم فيه مع صاحباتها، وكيف أنها عندما كانت تريد أن تعرف رقماً معيناً لاسم معين، لا تتورع من طلبه من (الاستعلامات) التي تلبّي لها ذلك على وجه السرعة.

ويقول الذي يروي هذه القصة: إنني بينما كنت ألعب في المنزل دققت إصبعي بمطرقة وأحسست بألم شديد، وكان الدم ينزف منه، فأخذت أبكي، وتذكرت الاستعلامات، واتجهت إلى التلفون وطلبت الاستعلامات، وأتاني صوت نسائي عبر السماعة، فقلت لها وأنا أبكي: لقد دققت إصبعي.

فسألتني: أليست والدتك في المنزل؟!

ـ لا يوجد في المنزل سواي.

ـ هل تستطيع أن تفتح الثلاجة التي لديكم؟!، فأجبتها بالإيجاب، فقالت لي: خذ قطعة ثلج صغيرة وضعها على إصبعك، فإن هذا سوف يخفف الألم.

وبعد ذلك أصبحت كلما أردت أن أعرف شيئاً، أطلب (الاستعلامات)، وأسألها في الحساب والجغرافيا، وعندما ماتت عصفورة الكناريا التي نربيها عندنا، اتصلت بها أسألها وأنا أبكي: لماذا تكون نهاية الطيور الجميلة المغرّدة التي تجلب السعادة للناس، لماذا تكون نهايتها بهذا الشكل؟!

أجابتني قائلة: ينبغي أن تتذكر يا (بول) أن هناك عوالم أخرى تغرّد فيها.

وأتذكر أن آخر يوم أمسكت فيه السماعة وسألتها أن تعلمني كيف أتهجّى وأكتب كلمة (يثبت)، لأنني بعد أن بلغت التاسعة من العمر انتقلت مع عائلتي إلى مكان آخر.

ومرّت الأعوام وكبرت وتخرجت واشتغلت، وموظفة (الاستعلامات) تلك التي علمتني وأمتعتني وزرعت في أعماقي الثقة لم تفارق خيالي أبداً.

وفي أحد الأيام وبينما كنت مسافراً بالطائرة في مهمة عمل، نزلت الطائرة (ترانزيت) في مطار البلدة القديمة التي كنا نسكن فيها، ودفعني الشوق والفضول إلى الاتصال بالاستعلامات، وإذا بها هي التي ترد عليّ، طبعاً لم تعرفني لأنني كبرت وتغير صوتي، ولكنني ما أن سألتها عن كلمة (يثبت) حتى عرفتني، وقالت لي وهي تضحك: أعتقد أن إصبعك قد شفي الآن، فقلت لها: إنك كنت تعنين لي الشيء الكثير، فأجابتني: وأنت كذلك، فلا تتصور سعادتي من اتصالك وأسئلتك، حيث إنني لم أرزق بأطفال وتخيلت أنك ابني.

ووعدتها إن عدت للبلدة مرّة أخرى لابد وأن أكلمها وأراها، فقالت: أتمنى ذلك، وأسأل عن (سالي).

وفعلاً حضرت بعد ثلاثة أشهر، وما أن اتصلت بالاستعلامات حتى أتاني صوت مختلف، وسألتها عن سالي، فقالت: هل أنت صديق؟!، نعم صديق قديم، هل أنت (بول)؟!، نعم، يؤسفني أن أبلغك أنها ماتت قبل خمسة أسابيع، حزنت جداً وانصدمت، وقبل أن أغلق السماعة، قالت لي المرأة انتظر فقد حملتني رسالة لا بد أن أوصلها لك وهي تقول: عندما تعلميه بوفاتي، اذكري له أنه ما زالت هناك عوالم أخرى نغرّد فيها، وهو سوف يعرف ما أعنيه.

وعرفت فعلاً ما تعنيه حبيبتي التي لم أرها (سالي).

انتهت القصة، وتعليقي البسيط عليها ما هو إلاّ دعاء من الأعماق: اللهم ارحم عبدك الطيب الذي أتى إليك مجرداَ من أي لقب (أحمد الربعي)، وأدخله في فسيح جنتك عصفوراً رشيقاً جميلاً مغرّداً يا رب العالمين.

[email protected]