النعمان.. بين السجون والرئاسة والمنافي!

TT

عاش الزعيم اليمني أحمد محمد النعمان بعضا من سنواته الأخيرة في مدينة جدة بعد اعتزاله السياسة، وكان يحضر بعض المنتديات الأدبية من حين لآخر، فكنا ننصب له فخاخ الكلام إعجابا، ونحن نتطلع إلى أن نتعرف عن قرب على شخصية هذا الرجل الذي تقلبت به الأزمنة، فطافت به على غياهب السجون وقصور الرئاسة وقسوة المنافي، حتى غدا رمزا من أهم رموز اليمن وعلما من أبرز أعلامه، لكن الرجل كان يتجاوز فخاخ الأسئلة بابتسامة مفتوحة تغريك على قراءة الصمت..

وتأتي أهمية أحمد محمد النعمان من أنه لم يكن رجلا عابرا في زمن عابر، إذ كان أحد أهم صناع السياسة اليمنية على مدى أكثر من نصف قرن، مع أن السياسة لم تكن تمثل سوى جانب واحد من جوانب النعمان، فهو مفكر، وأديب، وخطيب ساخر.. وكنت دائما أقول لنفسي: إذا كانت حياة أي إنسان رواية تستحق أن تكتب، فإن سيرة حياة أحمد محمد النعمان تجربة ثرية لا ينبغي أن تركن إلى الذاكرة العربية الموغلة في النسيان، حيث ينبغي أن تسجل وتحلل وتدرس، ولم يك يخطر ببالي أن الرجل قد ترك رواية شفهية سجلها عام 1969 لدى مركز الدراسات العربية والشرق أوسطية، التابع للجامعة الأمريكية في بيروت، مشترطا أن لا تنشر إلا بعد رحيله..

وحينما رحل النعمان عن عالمنا ظهرت تلك المذكرات في كتاب بعنوان «مذكرات أحمد محمد النعمان»، ومما يؤسف له أن الكتاب لم يرتق إلى قامة النعمان، فلم يكلف المحقق نفسه عناء تبويب الكتاب، وتوثيق معلوماته بمقارنتها بالكتب التي كتبها مجايلوه عن نفس المرحلة، أمثال: الجزيلان، والأشول، والبيضاني، وغيرهم. كما خلا الكتاب من الفهرسة والتعريف العلمي بصاحب المذكرات، فضلا عن أن مادة الكتاب عرضت عرضا حواريا، وكان السائل يفتقر إلى الحد الأدنى من المعلومات عن الشخصية التي يحاورها، فامتلأ الكتاب بالأسئلة السطحية الساذجة مثل: (ما هو القات؟)، و(متى تأكلون في الصباح؟)، و(هل أنت الولد الأول لأبيك؟) وغير ذلك من الأسئلة الساذجة التي أضاعت الفرصة التاريخية التي أتيحت لاستخراج ذكريات تلك الشخصية الثرية، وزاد الطين بلة تلك الطباعة التجارية الرخيصة التي ظهر بها الكتاب من قبل ناشره (مكتبة مدبولي).

فإذا كان كل ما بقي لنا من النعمان العظيم بعد رحيله ذلك الكتاب الهزيل، فإن علينا أن نتنبه لحجم الخسارة التي أشار إليها خالد التويجري، وهو يتحدث عن النعمان، قائلا: «لا مكان للنعمان في ذاكرة شباب امتلأت مساحتها بالأقزام.. إنه عصر المسوخ لكل الشخصيات العربية المؤثرة والفاعلة والمفكرة في تاريخنا العربي».

[email protected]