رحيل أحد رموز التقلبات القومية واليسارية العاصفة

TT

التجربة المتقلبة، التي مر بها الدكتور أحمد الربعي، الذي رحل وغادر هذه الدنيا الفانية يوم الاربعاء في الخامس من هذا الشهر، هي تجربة جيل كامل بدأت تجربته بالكارثة القومية التي سميت «النكبة» حيث هزم العرب هزيمة تاريخية، بتمكن مجموعات من العصابات اليهودية المدعومة من الغرب المتآمر من هزيمة الجيوش العربية، التي شاركت في حرب عام 1948، واقامة دولة اسرائيل على الجزء الاكبر من فلسطين.

وُلد الدكتور احمد الربعي ورأى النور بعد عام «النكبة» القومية بعام واحد وهو عندما اصبح يدرك ما حوله تأثر بالتأكيد بالاجواء التي شكلها الفلسطينيون الذين بعد ضياع مدنهم وقراهم وبعد ان اقتلعوا عن الجزء الاكبر من وطنهم قصدوا الكويت طلبا للرزق والاستقرار وحقيقة ان هؤلاء شكلوا مجتمعا فلسطينيا، لم ينغلق على نفسه ولم يغلق ابوابه في وجوه الكويتيين، لم يشكل اخوانهم الذين لجأوا لدول عربية اخرى مثله إلا في المملكة الاردنية الهاشمية التي هي توأم فلسطين في السابق واللاحق وحتى يوم القيامة.

كان الجيل العربي الذي سبق جيل أحمد الربعي وأقرانه، هو الجيل الذي بقي يحمل صفة «من أبوين عثمانيين» ولقد تمثلت مأساة هذا الجيل «العثماني»!! انه ما ان خرج اباؤه واجداده من مرحلة الظلام والتجهيل والاستلاب القومي التي استمرت لأكثر من اربعة قرون حتى واجه سطوة الاستعمار الغربي الحديث الذي ورث تركة «الرجل المريض» والذي حقق انتصارا عسكريا وحضاريا باهرا في الحرب العالمية الاولى التي كان عنوانها الحقيقي «اتفاقيات سايكس ـ بيكو» الشهيرة وتقاسم الوطن العربي محاصصة بين المنتصرين وبخاصة البريطانيين والفرنسيين.

كان نصيب احمد الربعي، الشاب المتحمس المندفع الذي بحث عن انتماء سياسي مبكرا حتى عندما كان على مقاعد الدراسة في المدارس الاعدادية والثانوية، انه اختار حركة القوميين العرب التي اسسها الدكتور جورج حبش، الذي سبق أبا قتيبة في الرحيل عن هذه الدنيا باسابيع قليلة، ومعه عدد من ابناء الدول العربية الذين التحقوا بالجامعة الاميركية في بيروت مثله في فترة نكبة عام 1948 ومن بين هؤلاء الدكتور وديع حداد وهاني الهندي والدكتور احمد الخطيب وبعض السعوديين والعراقيين وجميع هؤلاء تشربوا الفكرة القومية الحركية من العلامة المبدع قسطنطين زريق وتتلمذوا على يديه. غير معروف لماذا اختار الدكتور احمد الربعي حركة القوميين العرب ولم يختر حزب البعث الذي كان حقق وجودا بين الكويتيين وبين الفلسطينيين المقيمين في الكويت واصبحت له مجلة ناطقة باسمه مثله مثل هذه الحركة واغلب الظن ان ذلك الشاب المندفع المتحمس المتأثر بمأساة فلسطين والقضية الفلسطينية قد استهواه شعار القوميين العرب: «دم حديد نار.. وحده تحرر ثار» أكثر مما استهواه شعار حزب البعث الذي كان ولا يزال اكثر هدوءا وأقل صخبا وحركية: أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة».

لم تكن العلاقة بين هاتين الحركتين القوميتين ودية على الاطلاق وكانت حركة القوميين العرب قد انحازت للرئيس الراحل جمال عبد الناصر عندما وقعت المواجهة بينه وبين حزب البعث اولا بعد انفصال سوريا عن مصر بعد تلك التجربة الوحدوية الفاشلة والتي سقطت بسهولة سقوط اوراق الخريف. وثانيا بعد انهيار مفاوضات العودة لهذه الوحدة مجددا تلك المفاوضات التي ارادها البعثيون الذين اصبحوا يحكمون العراق وسوريا ردا على الحركة الانفصالية التي اتهم بها الاستعمار والرجعية العربية!! مع ان الحقيقة هي غير هذا.

ولهذا فإن احمد الربعي لم يكن وديا تجاه حزب البعث ولم يكن معجبا به في أي فترة من فترات ستينات وسبعينات القرن الماضي المتقلبة وهو بالتأكيد لم يكن معجبا بالرئيس العراقي السابق صدام حسين وكان لا يتورع عن نقده وانتقاده وشتمه ايضا عندما كان يعتبره كويتيون كثيرون وعرب كثر بطل الدفاع عن «خاصرة الأمة العربية» وحامي حمى البوابة الشرقية للوطن العربي.

لم تتوقف اتجاهات أحمد الربعي والتزاماته عند الانحياز للثورة الفلسطينية والقتال في صفوفها بالبندقية والرصاص والدفاع عنها بالكلمة القوية المخلصة والصادقة والجريئة فقد دفعته بدايات واقعيته الى تبني قضية خليجية، كان يعتبرها محقة وكان يعتبر دعمها ضرورة قومية لها الأولوية بالنسبة لأبناء الجزيرة العربية، وهي «ثورة ظفار» التي كانت امتداداً للجبهة القومية في الجنوب اليمني والتي كانت قد أُفتعلت افتعالا كإحدى جبهات الحرب الباردة والصراع بين الغرب (الامبريالي) والشرق (التحرري) أي بين المعسكر الامبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي.

إن هذه الفترة كانت فترة انتقالية إن بالنسبة للدكتور أحمد الربعي وان بالنسبة لبعض زملائه الذين شاركوه في هذه التجربة والذين انتقلوا من الالتزامات القومية الحزبية إلى الثورة الفلسطينية وأيدوا «ثورة ظفار» وثورة اليمن الجنوبي ضد الاستعمار البريطاني بقيادة الجبهة القومية وتوزعوا على الانقسامات الشيوعية العالمية بين الأممية الرابعة وليون تروتسكي والبولشفية التقليدية وبين ماوتسي تونغ والبانيا أنور خوجا من جهة وبين خروشيف وبريجنيف والخط الذي أصيب بتكلس الدماغ والعمود الفقري بقيادة الاتحاد السوفياتي.

لقد اكتشف الدكتور الربعي كما اكتشف زملاؤه الذين التقى تفكيرهم بتفكيره، والذين راهنوا على كوبا وفيدل كاسترو وعلى ظاهرة تشي جيفارا، أنه لا بد من مراجعة المسيرة العسيرة التي استوعبتهم لسنوات طويلة وانه لا بد من مراجعة الذات والقناعات وعلى أساس النقد والنقد الذاتي والمزيد من الواقعية، ولهذا كانت تلك الانتقالة من قومية ويسارية الشعارات الفضفاضة إلى الوطنية والديموقراطية والليبرالية وعلى أساس أنه على الانسان ان يبدأ ببيته أولاً وأنه من المستحيل تحقيق الوحدة التي كان يحلم بها ميشيل عفلق وصلاح البيطار وقسطنطين زريق وجورج حبش ومحسن إبراهيم قبل تحويل الظاهرة القُطرية المستفحلة إلى ظاهرة اصلاحية متقدمة ومتطورة اقتصاديا يملك فيها المواطن حق التعبير عن نفسه إن بصورة فردية ـ اجتماعية وإن بصورة حزبية سياسية. وهنا فإن أبناء هذه التجربة المُرَّة فعلاً، مع الاحتفاظ بهذا الوصف والتشخيص للدكتور منيف الرزاز الذي انتهى مقتولاً بخنجر هذه التجربة في بغداد بعد أن طرد من دمشق رغم أنه اختير أميناً عاماً لحزب البعث خلفاً لمؤسسه ميشيل عفلق الذي حكمت عليه عاصمة الأمويين بالاعدام بتهمة الخيانة العظمى، قد اصطدموا بـ«الاخوان المسلمين» وبتيارات الاسلام السياسي التي كانت ولا تزال تدور في فلكهم عندما كانوا في التيار القومي ـ اليساري، الذي كانت لبعض فروعه وجداوله علاقة التابع بالمتبوع مع جمال عبد الناصر وعندما أصبحوا رموزاً في التيار الوطني الديموقراطي (الليبرالي) ولهذا فإن استنساخات «الاخوان» في الكويت قد اتخذت من الدكتور أحمد الربعي موقفاً مناكفاً وعدائياً عندما كان لا يزال شاباً متمسكاً بموقفه والتزامه القومي وعندما أصبح مقاتلاً في صفوف الثورة الفلسطينية وعندما أظهر المزيد من الانحياز لليسار والانخراط في صفوف «جبهة تحرير ظفار» وإن لفترة محدودة جداً ثم بعد أن غدا نائباً ووزيراً وكاتباً ووجهاً إعلامياً مرموقاً وكأحد أهم المدافعين عن ضرورة عقلنة الوضع العربي وعن الليبرالية والديمقراطية.. وهذا هو سبب استنكاف هؤلاء عن المشاركة في وداعه الوداع الأخير بالصورة التي تليق برجل أعطى كل عمره لقناعاته ووقف موقفاً بطوليا في الدفاع عن الكويت يوم خانت الكثيرين أعصابهم وخانتهم قلوبهم التي أصيبت بالهلع المُربك عندما رأوا صور صدام حسين تملأ الشوارع الكويتية ورأوا دباباته تتجول في هذه الشوارع كوحوش أسطورية.