تأملات في «الظاهرة السليمانية»

TT

استوقف عدداً من كبار القوم في دول الخليج القلقة على لبنان، كما لم تقلق من قبل، ليس بدافع الخشية على الاستثمارات كما قد يظن البعض وإنما بدافع الخشية من أن يتناثر هذا الوطن، أحدثُ كلام لقائد الجيش الجنرال ميشال سليمان المتوافَق عليه من حيث المبدأ أن يكون هو رئيس الجمهورية اللبنانية. ورأى هؤلاء في كلام الجنرال الذي أورده خلال كلمة ألقاها يوم الخميس 28 ـ 2 ـ 2008 في مناسبة احتفالية تكريماً للمؤسسة العسكرية، ما يبعث الطمأنينة في النهج الذي سيسلكه في حال انتهى التسويف وتم ترئيسه رسمياً وبموجب التصويت في جلسة يعقدها البرلمان اللبناني لهذا الغرض. بل ان هؤلاء اعتبروا الكلمة كلمة رئيس وليست فقط كلمة قائد للجيش، ذلك أنه ليس في تاريخ كل قادة الجيوش العربية مَن يتوغل بكلمة احتفالية يلقيها في الدهاليز السياسية مثل ما فعل الجنرال ميشال سليمان، ربما لأنه مطمئن بأن لا بد من رئيس، وإن طال تأجيل انعقاد الجلسة البرلمانية المستعصية. كما اعتبر هؤلاء من كبار القوم الخليجيين بعض المفردات السليمانية وكأنما هي الخطوط العريضة لـ«خطاب القَسَم» الذي سيلقيه بعدما يحلف اليمين أمام أعضاء مجلس النواب وعلى نحو ما فعل غيره من قبل.

من المفردات اللافتة قول الجنرال سليمان «إن الإرهاب يعمل بثبات وصمت ضمن خطة طويلة الأمد وأهدافه تقويض بنية الكيان وضرب السلطات الشرعية، كما أن أخطاره محْدِقة بلبنان ودول المنطقة، وبالتالي فإنه عدو مشترك تتطلب مواجهته تضافر جهود الدول الصديقة وتعاونها معاً بكثير من الالتزام والجدية والمتابعة»، و«إن مناعة الوطن من الداخل تبقى السبيل الوحيد لدرء كل المخاطر والتحديات المحدقة به»، و«إن أكثر ما يحتاجه الجميع في هذه المرحلة هو إدراكهم مسؤولياتهم الوطنية من خلال العمل الدؤوب على تهدئة النفوس والحد من لهجة الخطاب السياسي والإعلامي والابتعاد عن الكيدية ولعبة تسجيل النقاط التي لا طائل منها، كما أن المرحلة تقتضي إسراع القادة المسؤولين بالعودة الى الحوار من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات وإطلاق عجلة النهوض بالوطن على مختلف الأصعدة»، و«نعاهد أن يبقى الجيش يتمسك بثوابته الوطنية، راسخ الإيمان بوحدة لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات ودوره الريادي في العالم كواحة للديمقراطية والحرية ومصهراً للحضارات والثقافات، يلتزم معايير العمل المؤسساتي ويواجه العدو الاسرائيلي ويتصدى للإرهاب بكل ما أوتي من امكانات...».

كلام في منتهى التوازن ويندرج عموماً في سياق الخطاب السليماني الذي كثيراً ما لاحظنا روحيته في مناسبات أخرى كان الجنرال سليمان يمزج فيها المفردات التي يقولها العسكري بتلك التي سيبدأ قولها كرئيس للبلاد. فهو على سبيل المثال دعا العسكريين خلال جولة له في الجنوب يوم الثلاثاء 11 ـ 12 ـ 2007 «الى مزيد من الجهد والانضباط والصبر لتجاوز مختلف الصعوبات التي يمر بها لبنان في هذه المرحلة الاستثنائية»، مضيفاً «إن قيامة لبنان بدأت مع انتشار الجيش في الجنوب الذي حقق السيادة على كامل ترابنا الوطني». وفي مناسبة أخرى يوم الخميس 10 ـ 1 ـ 2008 ركَّز في كلمة له على «أن المساءلة والمحاسبة هما ميزان أداء المؤسسات الذي من دونه تفقد القدرة على التماسك والتطور والإنتاج ويستشري الفساد في جنباتها». وفي مناسبة ثالثة يوم الاربعاء 16 ـ 1 ـ 2008 وبينما الأزمة السياسية التي تتمحور حول تأخير ترئيسه تزداد حدة، قال «إني أشعر كأن بين يَديَّ قنبلة موقوتة أعمل على تأخير انفجارها وتفكيكها، لأنه في حال حصول الانفجار سيصيب الأذى الجيش والمقاومة والوطن، وإن أي شخص يستطيع أن يفكك هذه القنبلة سيلقى دعم الجيش». وفي مناسبة رابعة وكان الوضع دخل مدار الإضرابات العمالية وبقي التأزم في أوساط رموز العمل الحزبي والسياسي على حاله، قال الجنرال سليمان كلاماً على درجة من التميز هو «علاقتي جيدة بجميع القوى السياسية، وأنا أتواصل معهم. وما دام الإجماع على الجيش قائماً فليست هناك مشكلة ولا يهمني الإجماع عليَّ. أولويتي هي الجمهورية والبلد. إذا اتفقوا على أي كان غيري لرئاسة الجمهورية فأنا مستعد لأن أضرب بسيفه. لم يقْدِم أحد على طلب ضمانات أو شروط مسبقة مني، ومسيرتي هي التي رشَّحتني. أول ما سأقوم به في حال انتخابي رئيساً للجمهورية هو إنجاز المصالحة وتثبيتها. الخط الأحمر هو منع الفتنة وأي تحرُّك يؤدي اليها وأي تحركات من نوع آخر وضمن حق التعبير لا مشكلة معها. أما العلاقة بسورية فإنها مستمرة منذ سنوات وهي ممتازة».

هنا نستحضر أمرين لافتين في شأن العلاقة الآسدية ـ السليمانية المحيِّرة إذا جاز التعريف. الأولى يوم برَّأ الجنرال سليمان بعد جولة له في أرض الميدان بين الجيش ومقاتلي «فتح الإسلام» الحكم السوري من أي علاقة له بهذا التنظيم. وجاءت التبرئة تدحض الاتهامات الفورية ومن دون انتظار التحقيق والحصول على القرائن من جانب المجموعات السياسية اللبنانية التي تخوض عراكاً كلامياً ضد الحكم السوري. وكانت تلك التبرئة نوعاً من المخاطرة للجنرال سليمان باعتبار أن تلك المجموعات أو البعض منها سيوجِّه اللوم اليه ويقلل من منسوب تأييده ليكون رئيساً للجمهورية. لكن سليمان بهذه التبرئة تصرَّف في ضوء حساب مزدوج: يُرضي الحكم السوري فيزكي هذا الحكم عملية الإتيان به رئيساً للجمهورية، ويجذب بعض أطياف المعارضة وامتداداتها السورية والفلسطينية والإسلامية اليه، مطمئناً في الوقت نفسه الى أن ما اصطُلِح على اعتباره الأكثرية الممسكة بالسلطة لا يمكنها التراجع عن الالتفاف حوله لأن التخلي عن ذلك سيعيد من جديد طرح اسم الخصم العنيد للأكثرية، الجنرال ميشال عون، قيد التداول في بورصة الترؤس.

أما الأمر الثاني اللافت، فهو أنه وبينما العراك السياسي على أشده بين الأطياف اللبنانية من أحزاب وحركات وتيارات، واتساع رقعة السجال حول تقاسُم مغانم السلطة، فإن الجنرال سليمان أجرى اتصالاً هاتفياً بالرئيس بشار الأسد، وهو أمر غير مألوف، أي بما معناه أن قائد جيش دولة لا يمكن أن يتصل هاتفياً برئيس دولة أخرى وإنما يتصل بمن هو في الموقع العسكري المشابه له. وبهذا الاتصال بدا الجنرال سليمان كما لو انه الرئيس الفعلي للبلاد، مستنداً أيضاً في ذلك الى أن قطبيْ الأزمة في لبنان، أي الأكثرية الممسكة بالسلطة والمعارضة الساعية الى تقويض سلطة الأكثرية بغير الأسلوب الديمقراطي للحلول محلها، لا خيار أمامهما سوى مبايعته (اي مبايعة الجنرال سليمان) رئيساً للبلاد. وفي الوقت نفسه فإننا عندما نشير الى الأمرين اللذين أوردناهما نأخذ في الاعتبار ما في نفس الجنرال سليمان من هوى نحو الحكم السوري. لكن الرجل يجاهد لكي لا تكون حاله في هذا الشأن مثل حال الجنرال السلَف إميل لحود الذي جاء ترؤسه، أو ترئيسه، في زمن كانت فيه الكلمة السورية هي الأولى والأخيرة الفاعلة في لبنان، واستمر في ما بعد الخروج العسكري السوري وما تلا الخروج من تداعيات لا يغادر المدار الذي وضع نفسه فيه حليفاً للحكم السوري ولـ«حزب الله» متحملاً على مضض أنواعاً من السهام لا حصر لها، أصابته.. إنما من دون أن تتكسر تماماً، وبذلك غادر الرئيس إميل لحود القصر الجمهوري مدمًّى معنوياً ومختزناً غضباً وحقداً على الذين تسببوا في جعله طوال سنتين رئيساً معزولاً من ثلاثة أرباع المجتمع الدولي، مقرِّراً بذل كل ما يمكنه بذله مع حلفاء الحكم السوري من اللبنانيين من اجل الإبقاء على القصر الجمهوري خالياً من الشخص الذي يتربع على كرسي الرئاسة. وقد تَحققَ له ذلك حيث أن الأزمة حتى كتابة هذه السطور ازدادت تعقيداً ويعيش لبنان منذ أكثر من أربعة اشهر فراغاً رئاسياً.

وهذا الفراغ قابل للاستمرار. وفي هذه الأثناء فإن الجنرال ميشال سليمان، الذي تؤكد مفردات كلامه أنه ليس زاهداً بالمنصب الأول وينتظر إسناده إليه بأعصاب باردة، يتصرف عسكرياً وسياسياً في الوقت نفسه. وهو دور غير مسبوق في دنيا الجنرالات العاملين في المؤسسات العسكرية في كل دول العالم... ولذا يمكن تسمية هذا الدور بأنه «الظاهرة السليمانية».