طالباني في «قصر الزجاج» التركي

TT

كان للرئيس العراقي جلال الطالباني ما أراد ونجح في تجاوز عقدة «البطاقة الحمراء» التي رفعها الرئيس التركي الأسبق أحمد نجدت سيزار في وجهه لسنوات طويلة وعرقلت مجيئه الى تركيا «بلده الثاني» كما قال دائما وقبل اقتراح أن تستضيفه تركيا في اطار زيارة عمل بعيدة عن المراسم والبروتوكولات الرئاسية وبدون استعراض ثلة الحرس وعزف الأناشيد الوطنية واستبعاد السجاد الأحمر قدر الامكان، ومع ذلك حاولت حكومة العدالة والتنمية التعويض عن ذلك باستضافة الرئيس العراقي في «قصر الزجاج» الواقع داخل باحة قصر شنقايا الرئاسي ودعت شخصيات تركية من أصل كردي لتأخذ مكانها بين مستقبليه وأقامت على شرفه عشاء رسميا حاشدا.

المؤكد أن الرئيس العراقي الذي لم يلق بعد الرد التركي حول اقتراحه المفاجئ اقامة تحالف استراتيجي ثنائي اقليمي نجح تماما في تفكيك وإسقاط مقولة «رؤساء العشائر» التي رفعتها أنقرة في وجه القيادات الكردية العراقية لسنوات طويلة.

الزيارة كما أوجزها الطالباني ـ في محاولة لقطع الطريق على تحليلات خبيثة وصفتها بأنها هدية تقدم له بسبب ليونته ومواقفه الأخيرة من العملية العسكرية في شمال العراق ـ لها علاقة مباشرة بضرورة قبول «الحقيقة الكردية» والاعتراف بها وضرورة الاتصال والتنسيق المباشر بين أنقرة واربيل وأن تفكر الحكومة التركية جديا بتوجيه دعوة مباشرة الى مسعود البرزاني لاستكمال التعاون التركي ـ الكردي في شمال العراق على طريق التنسيق في التصدي لحزب العمال الكردستاني «هذا البلاء المشترك».

الطالباني ومن خلال الوفد العراقي الذي اصطحبه معه الى أنقرة والذي ضم 5 وزراء يتولون حقائب التنمية والاقتصاد والأمن حاول أن يلوح ومن قلب أنقرة نفسها أن الأتراك هم أمام خيار واحد هو الاستفادة من التعاون والتنسيق الاقتصادي عبر تلميحه بوجود 25 مليار دولار جاهزة بتصرف من يريد التعاون والاستثمار في المدن العراقية فهل ستكفي اغراءات الطالباني هذه لإزالة الخلافات السياسية الكردية العراقية – التركية أم أن الزيارة على العكس من ذلك ستكون سببا لإشعال أكثر من خلاف على أكثر من جبهة بسبب توقيتها وطروحاتها وخلفياتها المتعددة الجوانب ؟

الطالباني حظي حقا بدعوة ظل يمني النفس بها لسنوات وأسرع في قبولها ما ان تسلمها من نظيره التركي عبد الله غل فهو عاتب الأتراك دائما بسبب دعوتهم لمعظم القيادات السياسية والدينية والعشائرية العراقية وتجاهله هو رغم أنه تجول لسنوات طويلة حاملا جواز سفر تركيا وها هو اليوم يبدي فعلا شجاعة فائقة في الانتقال الى العاصمة التركية رغم المعلومات المتواصلة حول استمرار العمليات العسكرية في شمال العراق. فهل سينجح في اقناع شريكه مسعود البرزاني بفوائد هذه الزيارة وقبول تكليف مماثل قد يصله والتخلي عن مطلب اغلاق المراكز العسكرية التركية في الشمال العراقي وسحب القوات المتواجدة هناك واضعا هذه القضية في قلب المعادلة ؟ وهل سيمكنه تخفيف وتجاوز غضبة قيادات حزب العمال الكردستاني التي واجهته بانتقادات واتهامات حادة بينها تخليه عن القضية الكردية ووضعها بين أيدي الآخرين يتلاعبون بها متناسيا أنهم ما زالوا يتحصنون في قمم الجبال وأن بمقدورهم التأثير على حساباته السياسية في شمال العراق ؟ وكيف سينجح في تخفيف غضب رئيس وزرائه نوري المالكي الذي وقع العديد من الاتفاقيات والعقود الأمنية مع الأتراك لكنه حال هو دون قبولها وتنفيذها ؟

حكومة العدالة والتنمية تصر على ان لا مشكلة لتركيا مع الأكراد لا داخل تركيا ولا خارجها وأن الأزمة هي بسبب «حزب العمال الكردستاني» وأن القيادات الكردية في شمال العراق تتساهل في تعاملها مع هذه الجماعات ملمحة الى أن الطالباني نفسه لم يدع الى أنقرة الا بعدما أدخل تعديلات جذرية على مواقفه وسياساته لكن ذلك لن يكون كافيا برأينا للالتفاف على استعدادات المعارضة داخل تركيا لإطلاق حملة محاسبة ومساءلة سياسية داخل البرلمان التركي تتركز على خلفيات العملية العسكرية في شمال العراق وتربطها حتما بزيارة الرئيس الطالباني الى أنقرة الذي وضع بين أيديها مادة دسمة من خلال اتصالاته ولقاءاته وتحركاته خلال الشهرين الأخيرين سهلت لها تركيب تفكيك الكثير من الالغاز حول سيناريوهات تخرج بها في مواجهتها مع حكومة أردوغان التي كسبت وقوف المؤسسة العسكرية الى جانبها في حملة العراق رغم الانتقادات العنيفة حول وجود تدخل أميركي وضغوطات مورست لإيقاف العمليات العسكرية وسحب القوات التركية بشكل سريع ومفاجئ.

رهانات كثيرة داخل تركيا على أن زيارة الرئيس الطالباني الى أنقرة ستشكل سببا لتفجير العلاقات الكردية ـ الكردية في العراق وتكون مقدمة لإشعال فتيل الأزمة السياسية الداخلية في تركيا وترجمة لإطلاق استراتيجية جديدة تتجاوز الداخل العراقي وترتبط مباشرة بإنقاذ أميركا من مأزقها الاقليمي ومغامرة في محاولة لاسترداد النقاط السياسية التي فقدها على الأرض لصالح القوى العراقية الأخرى التي نجحت في اللحظة الأخيرة بالوقوف في وجه محاولات تمرير مشاريع سياسية واقتصادية عديدة باسم المحاصصة والمشاركة ؟

* كاتب وأكاديمي تركي