نحو تجديد فكرة الدولة والشرعية

TT

أردت يا جلالة الملك باسمي وباسم زملائي من مثقفي الأمة العربية والإسلامية أن أتقدم منكم بخالص الشكر والتقدير على الدعوة الكريمة والضيافة للمهرجان الوطني الثالث والعشرين، مهرجان الثقافة والحوار والتشاور والتضامن والصداقة. لقد دأبنا طوال أكثر من عقدين على المجيء الى رحاب المملكة بدعوة منكم للاطلاع على وجه مشرق من وجوه الحياة الثقافية والاجتماعية في هذه الديار العامرة والزاهرة دائما بإذن الله. وكما في كل مرة، يقترن الاطلاع والتعرف بالنقاش والتشاور والمراجعة والتدارس، واستعراض المشكلات والتحديات التي تواجه العرب والأمة في الحاضر والمستقبل.

وأود هنا أن ألفت الانتباه الى ظواهر ومظاهر استقطبت اهتمامنا واهتمام كل العرب والمسلمين في السنوات الأخيرة، وهي سنوات البداية الواعدة إن شاء الله في عهدكم الميمون. فقد بدأتم العهد والوعد بالإقبال على تجديد فكر الدولة والشرعية بالداخل السعودي، وفي حاضر العرب والمسلمين ومستقبلهم. وقد تمثل البعد الداخلي لهذه المسألة الخطيرة في ثلاث حلقات: صون الأمن والاستقرار، وليس بمكافحة الاختراقات الداخلية والخارجية وحسب، بل ونشر ثقافة وممارسات المواطنة والعدالة. وكانت الحلقة الثانية في تجديد الدولة والشرعية الاهتمام المنقطع النظير بالمشاركة، بحيث تقدمت لديكم اعتبارات الواجب على اعتبارات الحق، فانتشرت أحاسيس وممارسات الثقة بين القائد والمواطنين، وهذا أساس متين، وأفق شاسع لتقوية الشرعية ودعم مقتضياتها. وجاءت الحلقة الثالثة المتصلة بالحلقتين السابقتين متركزة في النهوض بالمؤسسات والمرافق العامة، والتطوير، وتحسين حياة المواطنين باتجاه النمو والازدهار.

أما البعد الخارجي لمبادرتكم النهضوية المجيدة فتمثل في الانطلاق لإخراج العرب والمسلمين، دولا ومجتمعات، من حالات الحصار والاختناق والابتزاز والتبعية. بدأتم بمؤتمر القمة الاسلامية بمكة المكرمة، ثم عقدتم مؤتمر القمة العربية. وبين هذين المؤتمرين، طوفتم في العالم الأوسع، مؤسسين من جديد لعلاقات الندية والشراكة، بحيث تحولت خطط المؤتمرات والاتفاقيات والزيارات الى سياسات، أصبح معها الحلم العربي في السيادة والاستقلال والتصدي للمشكلات والاختراقات، قريب المنال والتحقق. لقد كان هناك من استمرأ التبعية والاستتباع، وكان هناك من عجز عن التفكير في القضايا الكبرى. لكننا اليوم وبفضل قيادتكم ومبادرتكم نملك التجربة والأمل في الخروج من السنوات العجاف، وفي صون دولنا واستقلالنا وأمتنا، وفي صنع المستقبل الواعد والزاهر، ومع العالم وليس في مواجهته

جلالة الملك، خادم الحرمين الشريفين:

ماذا نستطيع نحن المثقفين أن نفعل في خضم هذه النهضة المباركة؟ لقد فهمنا دائما أن لنا وعلى عواتقنا، بل عقولنا مهمة واحدة، ولنا اليوم فيما أرى مهمتان. المهمة الأولى اكتساب المعرفة بعالم العصر وعصر العالم، واستخدام تلك المعرفة في فحص الخيارات وبلورتها، والدعوة للقناعات المتكونة، وفي اتجاهين: اتجاه الداخل، الحافل بشتى القضايا والمشكلات. واتجاه الخارج بالنظر الى العالم نظرة صحيحة وصحية، العالم الحقيقي والواقعي، وليس العالم المتصور أو المفترض. لا داعي ولا مسوغ لهذه الرؤية السوداوية للعالم والعصر. ذلك أن العرب والمسلمين لا ينبغي ان يخيفهما العالم ولا أن يخافا منه، بل ينبغي أن يفهموه ويستوعبوه ويشاركوا فيه تعلما وتأقلما واسهاما.

أما المهمة المستجدة، وهي التي ظهر خطرها في العقدين الأخيرين، فتتناول مسألة الدولة بالذات. في المهمة الأولى المعرفية والتنويرية، أصبنا وأخطأنا وخالط أعمالنا النظرية القصور والتقصير والانجاز، أما في المهمة الثانية فقد غابت عن بصائرنا وبصائر كثيرين من رجالات العمل العام الضرورات والأولويات. لقد كتبنا كثيرا وتحدثنا أكثر عن التغيير السياسي والاجتماعي، وهذا أمر جيد ومفهوم. لكن التغيير الذي دعونا اليه انما يتناول المؤسسات في دول صلبة وقائمة ومنيعة. أما إذا كانت مؤسساتنا ضعيفة ومهددة، ومجتمعاتنا تنخر فيها الانشقاقات والاختراقات وضغوط الخارج والداخل، فإن المهمة الأساسية للمثقف والسياسي تصبح الدعوة والعمل على صون فكرة الدولة المدنية وتجديدها وتقويتها. لن نكون بشرا فضلا عن أن نكون مواطنين، بدون الدولة القوية والقادرة والحاضنة والعاملة في نطاق المصالح الوطنية والقومية للأمة.

لقد وصلنا بالفعل الى مرحلة الخطر باعتبارنا أمة، ليس بسبب هجمات الخارج وتشققات الداخل وحسب، بل بسبب تعرض فكرة الدولة للانتهاك في مجالنا العربي، وبعض مجالنا الاسلامي، ويحدونا نحن المثقفين الأمل المقترن بالارادة، في أن نستنقذ مستقبل أمتنا، باستنفاذ فكرة الدولة المدنية وتقويتها وتطويرها.

جلالة الملك، الاخوة الأفاضل:

نأتي الى المملكة كل عام، الى قيادة العرب والمسلمين، فنجدد العهد والوعد، ونرى الجديد والبناء فيستولي علينا طموح الانجاز. وقد زرنا قبل المجيء الى هذا المجلس السامي، مكتبة الملك عبد العزيز العامة، واطلعنا على نشاطاتها الواسعة والمتزايدة في خدمة الثقافة والمثقفين والشباب.

فلتبق المملكة العربية السعودية، وليبق مليكها، ولتبق قبلتها واسلامها. وليبق هذا العمل الزاهر والنافع: أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. صدق الله العظيم.

(*) الكلمة التي ألقاها المفكر اللبناني د. رضوان السيد أمام خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز باسم الوفود العربية والإسلامية المشاركة في المهرجان الوطني للتراث والثقافة (الجنادرية) يوم السبت 9/3/2008.