الكيانات الهشة والتجزئة الممتنعة

TT

توقفنا في الأسبوع الماضي عند مقالة جري مولر في مجلة الـ«فورين افيرز» الأمريكية التي يتبنى فيها خيار التجزئة القومية لحسم إشكاليات السلم العالمي ولضمان مسلك الدولة الديمقراطية المستقرة، بحسب النموذج الأوروبي الناجح.

لا شك أن المقالة كتبت من وحي التجربتين الكوسوفية والعراقية اللتين تستحوذان اليوم على واجهة الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي.

وفي الوقت الذي تحمست أغلب بلدان العالم (وفي مقدمتها الولايات المتحدة) لاستقلال كوسوفو الذي اعتبر مرحلة طبيعية في مسار تفكك الدولة اليوغسلافية المنهارة، فإن الوحدة العراقية تبدو التزاما دوليا اجماعيا، على الرغم من بعض الأطروحات المحدودة التي برزت في الدوائر السياسية الأمريكية طارحة باحتشام فرضية التقسيم لحل المعضلة الأمنية ـ السياسية القائمة في ظل الاحتلال.

وفي السودان حالة أخرى من حالات التقسيم المحتمل على أساس قومي وديني، بعد توقيع اتفاقيات السلم مع المتمردين الجنوبيين التي تضمنت مبدأ تقرير المصير لسكان هذه المنطقة، بعد فترة اختبار للنظام الفيدرالي.

وباستثناء الحالتين السودانية والعراقية، حيث تقوم الآن تجارب فيدرالية على خلفية أزمة تعايش حادة بين مكونات النسيج الوطني، لا يبدو خيار التقسيم مطروحا في أي من البلدان العربية الأخرى، حتى في دولة شديدة التنوع مثل لبنان التي عرفت حربا أهلية طويلة، هي على حافتها اليوم مجددا.

والواقع أن النموذج السياسي اللبناني صمم لدى نشأة الدولة، على أساس المحاصصة الطائفية التي اريدت صمام أمان من الفتنة والإقصاء والتفكك، لكنها لم تنجح في تحقيق أهدافها، لأسباب داخلية وإقليمية ودولية ليس هنا مجال بسط القول فيها.

ومع أن الكثير من التحليلات ذهبت أيام الحرب الأهلية الى التنبؤ بانجراف لبنان بمخطط إسرائيلي أمريكي، الى الانقسام الى كانتونات طائفية، الا ان التجربة أثبتت في أحلك أيام الصراع ان القوى السياسية المحلية على اختلافها تتمسك بالدولة الواحدة على ضعفها وهشاشتها امام التدخل الخارجي.

بل ان التجربة الصومالية تثبت صلابة القوة الشرعية للكيانات الوطنية، على الرغم ان الدولة انهارت بالفعل وتحولت الى مجرد وجود رمزي لا أحد يتجرؤ على إلغائه. وتتعين الإشارة هنا الى ان سبب الصراع الداخلي الصومالي الدامي والطويل، لم يكن قوميا أو طائفيا، مما يفسر ان التعددية العرقية والدينية ليست بالضرورة بؤرة تصدع الدول وتفكك المجتمعات.

واذا كان مولر يتوقف عند النموذج الأوروبي، فإن هذا النموذج يبدو نشازا في العالم المعاصر، بالنظر الى الطابع التعددي لأغلب بلدان العالم التي يسمها التنوع العرقي والقومي.

بل ان التجانس اللغوي والثقافي في أعرق البلدان الأوروبية ظاهرة جديدة، من فعل وتأثير الدولة القومية، وليس من الصحيح ان هذه الدولة كانت حصيلة أو أثرا  للتميز العرقي. ففي فرنسا مثلا (النموذج الأبرز للمركزية القومية) لم تصبح اللغة الفرنسية لغة أغلبية السكان، الا في بداية القرن العشرين بفضل النظام التعليمي الرسمي، الذي فرضها لغة وحيدة جامعة. وتلك هي الظاهرة التي نلمسها اليوم في البلدان الجنوبية ذات التنوع اللغوي والقومي، كالهند التي صارت فيها لغة الهندو لسانا قوميا في بلد ناطق بمئات اللغات، أو تنزانيا التي أصبحت فيها السواحلية اللغة الوطنية الجامعة وكذا الشأن بالنسبة للولفية في السنغال وهي بلدان شديدة التنوع القومي واللغوي.

ومما لا شك فيه أن السمة المميزة للدولة القومية الحديثة هي نزوعها التوحيدي الإدماجي، الذي يحولها الى صانع هوية، بدل أن تكون ـ على عكس التصورات الليبرالية السائدة ـ تعبيرا تلقائيا عن الروح الجماعية والذاتية الكلية.

ولا بد هنا ان نبين حقيقتين، نادرا ما يتم التنبيه إليهما وهما:

اولا: ان النزعات الانكفائية العرقية والطائفية ليست في الغالب انتماءات طبيعية تتأجج تلقائيا عند فشل الدولة المركزية، بل هي هويات مصنوعة وحديثة تشكلت تزامنا مع نشأة الدولة المركزية، وتعكس جوانب من رهاناتها وأزماتها ومصاعب تحولها والصراع على التحكم فيها.

ثانيا: ان الدولة القومية، وإن كانت حديثة النشأة في البلدان الجنوبية، ضعيفة وهشة في اغلبها، الا أنها استطاعت بالفعل بناء شرعيتها الوطنية، وأصبحت لها بالفعل تاريخيتها المميزة وهويتها الخصوصية، وحصانتها الدولية.