على (كورنيش) النيل

TT

تعرفت عليه في مناسبة اجتماعية، وأعطاني بدون مقدمات (كرّته) ـ وهذا تقليد طبيعي ومستحب وحضاري ـ، وطلب مني بالمقابل أن أعطيه كرتي، وخجلت عندما اكتشفت فجأة أنني متخلف بالفعل لأنني لم أطبع ولا يوجد لدي أي كرت ـ والسبب المحرج أنني لا أدري ماذا أكتب فيه عن مهنتي أو عنواني، فلا مهنة لدي ولا عنوان ولا حتى ملامح لكي اكتبها ـ فمحسوبكم ليس لديه أية مفاتيح حتى يضيعها، وهذا يدل على أنني بدوي بدون (نمرة واستمارة) ـ عندها ما كان مني إلاّ أن مددت له يدي معتذراً انه لا يوجد عندي أي (كرت).. استظرفني أو (استزرفني) من حركتي تلك، والدلالة انه سألني: هل هذه أول مرة تأتي إلى القاهرة؟!، قلت له: أبداً فقد شربت من ترعة النيل قبل ثلاثة عقود، ولابد للشارب أن يظمأ يوماً، والقاهرة هي عاصمة العرب جميعاً، وأشهد الله أنني أحبها وأعطف عليها.

توطدت العلاقة والصداقة بيننا لمدة ثلاثة أيام، وهي الفترة التي قضيتها هناك، وفي الليلة الثانية أتاني وسحبني معه إلى مكان على شط النيل يقال له (الكبابجي) ـ وبالمناسبة هو الذي دفع الحساب مشكوراً (على داير مليم) ـ وأخذ يحكي لي حكايته التي فهمت منها أن والده (جزار) ورث مهنته عن أجداده، وقال: إنه حاول بشتى الوسائل أن يورثها لي، غير أنني تمردت عليه لأنني كنت (غاوي فن)، فمن طفولتي المبكرة كنت طوال الوقت أرسم الطائرات والسيارات والكراسي والناس.

وبعد خناقة طويلة عريضة، وبعد إلحاح وعناد وتصميم مني، واقتناع وشفقة ومساعدة من أمي، رضخ أبي والتحقت بكلية الفنون التطبيقية، ولكي أرضي والدي كنت أساعده في العمل كل نهاية أسبوع وفي الإجازات.. وكثيراً ما كان ينصحني قائلاً: يا ابني الجزارون هم الأفضل، لأن الناس كلهم يأكلون، هل عمرك شاهدت إنساناً لا يأكل اللحم؟!، اللهم إلاّ هؤلاء الذين يسمون أنفسهم (النباتيون)، هؤلاء الناس يا ابني محرومون من النعمة وزيادة على ذلك عقولهم (ترللي)، صدقني الله يرضى عليك (الفن) ما فيه غير الجوع والبهدلة وكذلك قلة الحيا.

طبعاً كنت أحب والدي واستخف دمه، ولكنني لم أستسلم له في هذه الناحية، وكثيراً ما كان يعرفني على أصحابه ويشير لي متهكماً وهو يضحك ويقول لهم: أقدم لكم ابني الفنان الفلتان.

تخرجت من الكلية، والتحقت كمصمم إخراج ورسوم في إحدى المؤسسات الصحافية، ولا أنسى أن والدي سألني في أول يوم عملت فيه قائلاً: أنت بتقبض كم في الشهر؟! فذكرت له الراتب، فضحك وقال: «إن هذا الذي تأخذه كل شهر أنا أطلعه بثلاثة أيام، أحسن لك يا ابني اترك الفن والصحافة وخليك معايا وأنا أديلك ثلاثة أضعاف راتبك»، ومع ذلك لم أطاوعه واستسلم له، ومرت الأعوام ونجحت في عملي، وتهافتت على استقطابي المؤسسات الصحافية، وأصبحت الآن مديراً تحت إمرتي عشرات الموظفين، وأصبح دخلي في ثلاثة أيام يزيد عن دخل جزارة أبي طوال شهر كامل.. والآن تقاعد أبي مع تقدمه بالعمر، وأصبح يقدمني لأصحابه مفتخراً ويقول: أقدم لكم ابني الفنان الذي والحمد لله أنه لم يسمع كلامي.. وقبل أيام أتاني ابني البالغ من العمر ثمانية وعشرين عاماً يقول لي.. إنه تلقى عرضاً من شركة للإلكترونيات ليعمل معها في بلدة بعيدة، ويريد أن يأخذ رأيي، فقلت له: هذه حياتك، والقرار قرارك، واذهب حيثما شئت.

استمعت لمحدثي القاهري وأنا أرتشف كأساً من (الكازوزة)، وقلت له: إن ما فعلته في حياتك هو عين الصواب، ولكن ما رأيك أن تفرجني على حياة الليل في القاهرة، فقد مضى عليّ (قرن كامل) لم أسهر فيه ولا ليلة واحدة.

فقال: هيا نتمشى على كورنيش النيل، و(نأكل ترمس ونأزأز لب) ـ وهذا ما كان ـ.

[email protected]