النبي اللطيف

TT

اللين، والبراءة من الفظاظة من الغلظة، والرأفة، والرحمة.. هذه أوصاف وصف الله ـ تقدس في علاه ـ بها نبيه المحمد صلى الله عليه وآله وسلم.. ومن الناحية السلوكية التطبيقية المشاهدة الملموسة: وصفه واصفوه ممن رآه وخالطه وتعامل معه بأنه كان طيب النفس فَكِها على كثرة ما يفد عليه من جفاة العرب وأهل البوادي، لا يراه أحد ذا ضجر وقلق، وكان لطيفا في النطق، رقيقا في المخالطة. والوصف الكلي الجامع لخلقه: قول الله سبحانه: «وإنك لعلى خلق عظيم».

وأخلاقه العظمى عديدة متنوعة، ومن أعظمها وأجملها وأكملها (خلق اللطف).. وفيما يلي نماذج وهاجة من هذا الخلق العالي الجميل:

1 ـ لطفه في إيثار اللطف والرحمة حتى مع أعدائه.. في غزوة أحد كسرت رباعيته، وشج وجهه الشريف، فشق ذلك على أصحابه وقالوا: لو دعوت عليهم!. فقال «إني لم أبعث لعانا، ولكني بعثت داعيا ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»!!

2 ـ لطفه في أن يقوم ـ بنفسه ـ في خدمة من أسدى إليه معروفا. فقد وفد وفد للنجاشي فقام النبي يخدمهم، فقال له أصحابه: نكفيك. فقال:«إنهم كانوا لأصحابنا مُكِرمين، وإني أحب أن اكافئهم».

3 ـ لطفه في التواضع الصدوق، فقد قال:«أيها الناس، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي، إنما أنا عبد».. ومن هذا التواضع اللطيف: ما حدّث أحد من الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أذنه فينحي رأسه حتى يكون الرجل هو الذي ينحي رأسه.

4 ـ لطفه مع (المسيئين) أو المخطئين وحفزهم على النهوض.. كان هناك رجل يشرب الخمر، وبينما هو يُجلد قال أحدهم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به. فقال النبي: «لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا انه يحب الله ورسوله». ومن لطفه بالمخطئين انه قال:«إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار، يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش، فنزعت موقها (خفها)، فسقته فغفر لها به».. ومن ذلك ايضا: ان النبي قال: «إن رجلا قال: والله لا يغفر لفلان، وان الله تعالى قال: «من ذا الذي يتألى (يحلف) عليّ أن لا أغفر لفلان قد غفرت لفلان وأحبطت عملك».

5 ـ لطفه مع (المحسنين) والثناء عليهم. قال عن أبي عبيدة بن الجراح: «إن لكل أمة أمينا، وأن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح».. وقال عن أبي ذر:«ما أظلت الخضراء (السماء) وما أقلت الغبراء (الأرض) من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى ابن مريم».. وقال لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن اقرئك القرآن» قال أُبي: الله سماني لك ؟ قال «نعم». قال: وقد ذكرت عند رب العالمين؟. قال «نعم».. وقال لأبي موسى الأشعري: «لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود».

6 ـ لطفه في الارتقاء بـ«حاسة الشم».. قال صلى الله عليه وسلم:«من عرض عليه طيب فلا يرده، فإنه خفيف المحمل طيب الرائحة».. وكان كثيرا ما يتطيب حتى ان الناس ليعرفون ان النبي مرّ من ها هنا، لما يجدونه في الطريق من رائحة طيبة في أثره.. وإذ يحب الرائحة المحببة، فإنه يكره الرائحة الكريهة.. يقول صلى الله عليه وسلم:«من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا».

7 ـ لطفه في التعامل مع (الإنسان الصغير). كان يمر على الصبيان فيسلم عليهم.. وحدّث أحد الصحابة فقال: كنت صغيرا، وكان النبي يتوضأ، فمَجَّ الماء في وجهي، أي رشق الصبي بالماء من فمه الشريف: ملاطفة له!!.. ومن ذلك: انه كان يسمع بكاء الطفل فيخفف الصلاة: لطفا به وبأمه.

8 ـ لطفه في تقدير الناس وإنزالهم منازلهم اللائقة بهم. فقد قال:«انزلوا الناس منازلهم».

9 ـ لطفه في مخاطبة الزعماء والعظماء بما يناسب مقاماتهم، فقد خاطب قيصر روما بـ«هرقل عظيم الروم».

10 ـ لطفه في حسبان (شكر الناس): جزءا من توحيد الله وشكره. قال:«لا يشكر الله من لا يشكر الناس».

11 ـ لطفه في محبة الخير والنعمة للناس أجمعين.. كان يدعو: «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر».

12 ـ لطفه في (التبسم) وطلاقة الوجه: سلوكا ودعوة. فقد كان أكثر الناس تبسما، وقال:«تبسمك في وجه أخيك صدقة». وقال:«لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق».

13 ـ لطفه في التبشير بـ«حرية الضمير» المكنون وغفران الخواطر غير الإرادية. قال:«إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به صدورها ما لم تعمل أو تكلم».

14 ـ لطفه في التيسير والتبشير. قالت عائشة: ما خير رسول الله بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. وكان يقول:«يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا».

15 ـ لطفه في المشية الخفيفة، وخفض درجة الصوت. فكان يمشي فلا ينطفئ السراج الذي مر به: للطف حركته ورقتها. وكان يقول للذين يرفعون أصواتهم بالدعاء:«اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا».

16 ـ لطفه في التبشير بـ«رحمة الله الواسعة». قال:«قال الله عز وجل: سبقت رحمتي غضبي». وقال: «لله أرحم بعباده من هذه بولدها». أي من الأم التي لا تستطيع ـ بمقتضى حنانها ومحبتها لرضيعها ـ أن تلقي بولدها في النار.

17 ـ لطفه في التعامل مع بناته. قالت عائشة: ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة كرم الله وجهها: فكانت إذا دخلت عليه قام إليها فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه.. وقالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة عليها السلام:«مرحبا بابنتي».

18 ـ لطفه مع نسائه.. «كأن يكون في مهنة أهله حتى إذا حضرت الصلاة قام اليها».. مهنة أهله: أي خدمة أهله.

19 ـ لطفه مع النساء عموما.. مرّ في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود، فألوى بيده بالتسليم.

20 ـ لطفه في (التسامي بالكلمة واللفظ والاسم). قال صلى الله عليه وآله وسلم:«لا يقولن أحدكم خبثت نفسي، ولكن ليقل لَقسِت نفسي».. ومعنى اللفظين متقارب، بيد أن النبي اللطيف: استبعد لفظ (خبثت) لبشاعته الشديدة وقبحه.. وقال:«لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله، وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: فتاي وفتاتي».. وكان هناك رجل يسمى أصرم، فقال رسول الله:«ما اسمك»؟ قال: أنا اصرم. فقال رسول الله:«بل أنت زُرعة».. وجاء رجل الى النبي فسأله النبي:«ما اسمك»؟ قال: حَزْنٌ. قال النبي:«أنت سهل».

21 ـ لطفه في التعامل مع من يخدمه. قال أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين. فما قال لي: أفّ قط، وما قال لشيء صنعته: لِمَ صنعته، ولا لشيء تركته: لِمَ تركته.. عن ابي علي سويد بن مقرن قال: رأيتني سابع سبعة من بني مقرن، مالنا خادم إلا واحدة، لطمها أصغرنا فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نعتقها.. وعن أبي مسعود البدري قال: كنت أضرب غلاما لي بالسوط، فسمعت صوتا من خلفي:«اعلم ابا مسعود» فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني، إذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقول:«اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام». فلم أضرب غلاما ـ أبدا ـ بسوط بعد ذلك.. وجاء رجل يسأل النبي اللطيف فقال: كم أعفو عن الخادم؟. قال النبي:«سبعين مرة».

22 ـ لطفه في (الموعظة)، إذ كان لا يكثفها موضوعا، ولا يقاربها زمنا.. عن ابن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا (بين حين وآخر) مخافة السآمة علينا.

23 ـ لطفه في الانفتاح على الناس ومخالطتهم بلطف. قال جرير بن عبد الله: ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم.

24 ـ لطفه في الوفاء لعائلة مرضعته.. كان النبي جالسا يوما، فأقبل أبوه من الرضاعة، فوضع له بعض ثوبه، فقعد عليه، ثم أقبلت أمه من الرضاعة، فوضع لها شق ثوبه من جانبه الآخر، ثم أقبل أخوه من الرضاعة، فقام النبي فأجلسه بين يديه.

25 ـ لطفه مع (الكائنات الأخرى)، من دابة وطير.. رأى النبي اللطيف حمارا موسوم الوجه، فأنكر ذلك.. كما نهى عن ضرب الدواب في الوجه.. ومن لطفه بالطير.. أن أصحابه وجدوا حمّرة معها فرخان، فأخذوا فرخيها، فجاءت الحمرة الأم فجعلت تعرش، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:«من فجع هذه بولدها»!! ردوا ولدها اليها»!!

26 ـ لطفه في نظافة البيئة، وربط ذلك بالايمان والتوحيد.. قال:«الإيمان بضع وسبعون شعبة. فأفضلها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق».

27 ـ لطفه في إعلاء شأن الرفق. قال:«ان الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف».. وقال:«إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه».

28 ـ لطفه في التسامي بـ«قيمة الجمال» والتفريق بينها وبين نزعة قبيحة وهي (الكبر والخيلاء).. قال:«لا. لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة، فقال النبي اللطيف الجميل صلى الله عليه وآله وسلم:«إن الله جميل يحب الجمال».