الإذاعة المدرسية والعودة للمستقبل

TT

برنامج «توداي» وترجمة المعنى أخبار اليوم، في راديو البي.بي.سي، هو افضل برنامج احداث جارية في العالم الحر وأكثرها حرفية، ويحدد الاجندة السياسية اليومية في بريطانيا، حيث يبث حيا من السادسة وحتى التاسعة صباحا، ويقدمه افضل المذيعين وأكثرهم خبرة ووراءهم باقة من عمالقة صحفي الاذاعة.

السياسي، من الحكومة او المعارضة، بريطاني أم أجنبي، الداخل الى توداي مفقود والخارج منه مولود، بسبب حدة وجرأة الاستجواب الذي يتعرض له، وكأنه في محكمة تفتيش كاثوليكية في العصور الوسطى.

المواضيع والتحقيقات التي يتناولها برنامج توداي، تثير انتباه المجموعة الصحافية البرلمانية «اللوبي» ونواب البرلمان، فيثيرون القضايا نفسها في مجلس العموم لتصبح اهم فقرات نشرات اخبار الشبكات المتعددة في المساء. باختصار، لو هبط زوار من المريخ فما عليهم الا الاستماع لبرنامج «توداي» لمعرفة اهم اخبار كوكبنا.

صباح الاربعاء استضاف توداي الاطفال، ايما، هيلين، البيزابيث، وبينجامين، تتراوح اعمارهم ما بين الثانية والثالثة عشرة، تلاميذ مدرسة مايفيلد في شرق لندن لعشر دقائق، قدموا فيها برنامج توداي مدرسي مصغر. من نشرة اخبار اليوم والتعليق على فقراتها التي اختاروها بعناية.

رفع الاطفال الاربعة الستار عن احد اهم مشاريع الثقيف القومي للصغار وأكثرها طموحا بمبادرة من البي.بي.سي، ومجموعة من معلمين ومعلمات من انحاء المملكة.

لا تدخل من وزارة المعارف أو اية مسؤولين. فقط البي.بي.سي، والمعلمين ـ مع استئذان اولياء الأمور لأن المشاركين دون السن القانونية (حاليا 18) ـ في مشروع تعريف التلاميذ والتلميذات بحرفة الصحافة المسموعة والمرئية وصناعة نشرات، من فقرات تغطي اهم احداث اليوم.

اختبر التلاميذ الحاسة السادسة الصحفية «الأنف الخبري» Nose for news القادر على اشتمام ما اذا كانت الواقعة خبرا صحفيا يهم الناس. «الأنف الخبري» هو الموهبة الصحفية الاساسية والباقي تدريب مهني.

يعد الاطفال تحت اشراف المدرسين والمدرسات، وبمساعدة صحفي البي.بي.سي، ونشرات اخبار على مدى ست خطوات ابتداء من تحديد الخبر، وبحث خلفيته وتحديد عناصره وشخصياته ومصادره، ثم تسجيله وعمل المونتاج، وإعداد النشرة وتحريرها.

ايما وهيلين واليزابيث وبنجيامين استمعوا ليلة الثلاثاء لنشرة الإرصاد الجوية وحددوا توقعاتهم للصباح.

وصلوا مدرستهم في الرابعة فجر الاربعاء ليصطحبهم معلمهم، للبي.بي.سي لانتقاء فقرات الأخبار من التيكرز وبحثهم الخاص على الانترنت. أجروا اجتماعهم التحريري كل ساعة دون تدخل من البي.بي.سي التي اكتفت بإلحاقهم بباحثة تسهل لهم ما يرغبونه، من معلومات يطلبونها من الارشيف، أو الشاي واللبن والإفطار، وإعداد استوديو التسجيل.

تكونت نشرة الاطفال في الثامنة والنصف من اربع فقرات؛ الاولى عن طفلة في التاسعة خرجت ولم تعد قبل اسبوعين، وكانت الصحافة اثارت في الأيام الأخيرة جانبا اجتماعيا باتهام شريك الأم (لها ثمانية اطفال من خمسة آباء مختلفين) بإساءة معاملة الطفلة؛ الملاحظ تعمق الاطفال الاذاعيين في تغطية الفقرة من هذه الزاوية. الفقرة الثانية تناولت العواصف التي ضربت غرب انجلترا وأحدثت الدمار.

الثالثة عن سخرية المعلقين وتسخيفهم لاقتراح حكومة غوردون براون العمالية بتأدية تلاميذ المدارس، عند انهاء المرحلة الثانوية قسم الولاء للتاج لاجتياز امتحان المواطنة. والفقرة الرابعة عن اقتصاديات وتطورات ما يعرف بالفيس بوك Face book وهي تقليعة عن دائرة اتصال في الانترنت.

الاطفال قدموا لنا، عواجيز وكهول الصحافة، درسا قيما في حساسية التلقية وما يهمهم كجيل الصغار.

فباستثناء الفيس بوك، فإن الفقرات الثلاث الاخرى كانت بالفعل اولى فقرات نشرات البي.بي.سي (والإذاعات الاخرى) واهم عناوين الصحافة المكتوبة. الفارق هو الترتيب حيث جاء خبر العواصف الاول للكبار، بينما كان ضياع طفلة أخبر اكثر اهمية للاطفال؛ اما الفيس بوك فخبر في غاية الأهمية لجيل الانترنت، يفوت انتباه الصحفيين الكبار الذين يختصرونه الى خانة التسلية واللهو، بينما هي نافذة اتصال مهمة على العالم الخارجي، والثقافات الاخرى بالنسبة للصغار.

استفدت كصحفي من التجربة، فمتابعتها في الاسابيع التالية ستطلعني على طريقة تفكير المراهقين صحفيا. سعدت من حسن اختيار البي.بي.سي لأوجه انفاق الميزانية (مصدرها رخصة البث التي يدفعها كل بيت مما يضمن استقلالية البي.بي.سي عن الحكومة وعن مصادر التمويل التجاري).

سعدت اكثر من ابقاء المعلمين والبي.بسي.سي المشروع بعيدا عن الحكومة، خاصة أن الحكومة الحالية التي زادت ميولها الستالينية في عهد براون، لا تكف عن دس انفها في شؤوننا الخاصة كمواطنين، وتحاول وضع الغمامة على عيوننا كصحفيين.

وبقدر سعادتي بالتجربة الرائدة بين المعلمين والبي.بي.سي، بقدر ما حزنت على ذكريات دعم نشاط تلاميذ وتلميذات المدارس المصرية في ممارسة النشاط الصحفي الذاتي قبل ان تفكر فيه مدارس بريطانيا بقرابة ستين عاما، اثناء تولي رائد الأدب العظيم، الدكتور طه حسين وزارة المعارف العمومية المصرية قبل ان يخربها الصاغ كمال الدين حسين، عندما حول انقلاب 1952 العسكري وزارة المعارف من نبع للاستنارة، الى معسكر تدجين وتجهيل استاليني اسمه وزارة التربية والتعليم. وزارة المعارف العمومية بعد الحرب العالمية الثانية رغبت التلاميذ في الصحافة بالقراءة باشتراك سنوي لمدارس مملكة وادي النيل في مجلة «سندباد» الاسبوعية لصاحبها الصحفي العملاق محمد سعيد العريان.

«سندباد» كانت نافذة معلوماتية على العالم، جغرافيا وتاريخ وثقافة وتكنولوجيا؛ (كان اول قرارات الصاغ حسين كوزير افلاس دار سندباد بإلغاء الاشتراكات).

واذكر في صغري في الخمسينات، سواء في مدرستنا الانجليزية، كلية فيكتوريا، او في مدارس الوزارة في الاسكندرية التي عرفتها بخبرتي او بخبرة الاقارب وأولاد الجيران للمدارس التي ترددوا عليها كمدرسة فؤاد الابتدائية، والمدرسة الفاروقية الثانوية، ومدرسة الاميرة فايزة للبنات، ومدرسة راس التين للبنين (وكان جدي رحمه الله ناظرا لها كافأه الملك برتبة البهوية بعد تبوئها المركز الاول لعدة سنوات في نتائج التوجيهية على جميع مدارس المملكة، بما فيها المدارس الخاصة الانجليزية والفرنسية) كيف كان التلاميذ، بلا كمبيوتر او فاكس او انترنت، فقط بالآلة الكاتبة، وباصرار نظار المدارس والمعلمين على دفعهم للاجتهاد، يصدرون صحفا اسبوعية عن احوال الحي واهم اخبار الاسكندرية، ونشرة اذاعية صباحا وساعة الغذاء في ميكروفون المدرسة ومكبرات الصوت في القاعات. وبإدراك فكرة الفيلم الكوميدي عودة الى المستقبلBack to the future فمثلما كانت بريطانيا مدينة لمصر بملايين الجنيهات قبل «ثورة يوليو المجيدة» (أي الانقلاب العسكري بلغة العلوم السياسية والتاريخ)، فإن بحث مسؤولي التعليم المصريين في ارشيف المدارس المذكورة اعلاه (اذا وجدوه) سيغنيهم عن ارسال بعثة مصرية تعليمية الى لندن لدراسة تجربة البي.بي.سي في الاذاعة المدرسية لنقلها الى مصر.