مستقبل الاعتماد على الذات العربية

TT

يعيش العالم العربي في محيطه الجغرافي حضوراً مخيفاً للمصالح الدولية، ضاعت بسببها مصالحه القومية، وأوقعته في حالة من الغليان السياسي، والأمني، والاضطراب الاقتصادي، وأصبح عالمنا العربي ميداناً للتناقضات الدولية، ودعّم هذه الحالة المتردية عدة أمور:

الأول: استمرار حالة الفشل الأمريكي في أداء دوره في المنطقة، ومعالجة الآثار السلبية التي خلفها احتلاله للعراق بالرغم من الترحيب العربي والإمكانات الجبارة (أمريكيا وعربيا و دولياً) المتاحة لهذا الحضور، فلا تزال السياسة الأمريكية تعيش حالة من العبثية في توجهاتها داخل المنطقة تأثرا بسوء وضعها في الداخل العراقي، وتخبطها في حل القضية الفلسطينية، وتعمدها عدم اتخاذ موقف مسؤول تجاه التزاماتها كوسيط رئيس ونزيه لحل القضية والتي ألزمت من خلالها القوى العربية لتنازلات على أرض الواقع سبقت التخيلات الذهنية لحجم التغير في المسلك العربي تجاه قضية فلسطين والموقف من الغطرسة الصهيونية تجاه شعب أعزل معزول.

الثاني: السلبية غير المفهومة لدول الاتحاد الأوربي، سواء على مستوى الاتحاد، أو على مستوى الدول الأعضاء، فأدوار الاتحاد الأوربي لا تتجاوز مجرد سد الثغرات في الخطوات الأمريكية في المنطقة ومحاولة ردم الهوة كلما اتسعت، وكأنها معنية بتحقيق المصالح الأمريكية ودعمها أكثر من مصالح الاتحاد الذي عمل أبناؤه أكثر من خمسين عاما ليتحقق كوحدة أوروبية تحقق مصالحهم وترعاها على مستوى العالم، وبعض دول الاتحاد تتجه للمنطقة بخطى عرجاء فهي تسعى لتحقيق بعض مصالحها الاقتصادية في غياب شبه تام لدورها السياسي الذي تحتاجه دول المنطقة، وما لم تكن العلاقة ذات نفع متبادل للطرفين فأعتقد جازما أنها لن تحقق الكثير.

الثالث: غياب الفاعلية الروسية في العالم العربي ومعايشة قضاياه مع توفر الأجواء الموضوعية لحضور موسكو والتي تسعى بشكل متواصل في كلمات السياسيين الروس على التأكيد بأن لها مع العالم العربي محاور التقاء طبيعية غير متكلفة، ومصالح مشتركة (سياسيا وثقافيا واقتصاديا)، فروسيا لم تستثمر بعدُ الخطوات التي حققتها في هذا التقارب، والنجاح الذي عملت له كثيرا لتجاوز حالة العداء الذهني مع العالم العربي والإسلامي بتأثير وتأثر من تاريخ الأيديولوجية الشيوعية السوفييتية، ثم القضية الشيشانية في روسيا الاتحادية، وكأني بروسيا تعيش حالة من الارتخاء نتيجة لتحقيقها نسبة مقبولة من التقارب مع الشرق الإسلامي، متناسية أن ذلك ليس هو النجاح المطلوب؛ بل لا يتجاوز كونه ممهدات لبناء علاقات إيجابية وفاعلة في الداخل العربي يتحقق بها جانب من المصالح الثنائية، وقد تفقد روسيا هذه الفرصة وتلك الممهدات إما لتمكن القوى الأخرى بشكل لا يسمح بمزاحمة أو مشاركة قوى أخرى، أو بسبب الملل العربي من طول انتظار دور روسي فاعل.

هذه الفوضى التي تعيشها المنطقة العربية، هي نتيجة طبيعية للسلوك الأناني للقوى الدولية فيها، ولا يمكن أن يستمر الوضع العربي على هذه الحال، فقراءة التاريخ تخبرنا بتنبؤات مستقبلية ليس من المبالغة القول بأنها حتمية الحدوث:

* ظهور أشكال سياسية عربية جديدة تستجيب لمتطلبات المرحلة، وهي شبيهة في مضمونها للثورات العربية ضد دول الاستعمار، وإن اختلفت في أشكالها، ويقلل من هذا الاحتمال حالة الخمول والضعف الذي تعيشه الشعوب العربية، إضافة إلى فقدانها الهوية التاريخية التي كانت الروح الدافعة لها في مرحلة الاستعمار، إلا أن حالة التشرذم العربي وروح العداء التي يشعلها بعض قادة دوله قد تشعل هذا الفتيل.

* ظهور مزيد من حالات الانفلات السياسي والأمني على مستوى واسع في المنطقة، وممهدات ذلك حاضرة بقوة، فالقوى الدولية تضعف من قوة حلفائها وتقلل من تأثيرهم على شعوبهم، بل ومن احترام الشعوب العربية لقادتها، وهذا ظاهر في المواقف السياسية لتلك القوى فقد ضيقت عليهم ميادين التحرك والتأثير الدولي، فلم تدع لهم فرصة حقيقية للعب أدوار مؤثرة وإيجابية تسند مواقعهم في الداخل العربي وتمنحهم شيئا من المصداقية في دولهم وأمام شعوبهم.

* أن تدرك القوى الدولية بعين العقل أنها تجاوزت كل الحدود في تعاملها المتعالي مع قضايا العالم العربي، والاستهانة بحقيقته وحقوقه ومصالحه في سبيل تحقيق رفاهيتها ونشر أيديولوجياتها، وأنها يجب أن تبدل مواقفها لتكون أكثر موضوعية وبخاصة فيما يتصل بثقافاتها واتجاهاتها الدينية وأعرافها الاجتماعية، وأن تحفظ لشعوب المنطقة الحد الأدنى من الكرامة ليحفظ لها الحد الذي يحقق مصالحها، وهذا ممكن التفاؤل به إن غيّبت قوى الشر التي تدير السياسات الخارجية لتلك القوى روح العداء والامتهان للعالم العربي قضايا وشعوب، وأن يحضر بديلا عن ذلك الرغبة الصادقة لدى تلك القوى في إيجاد محاور مشتركة للتعايش المبني على علاقة المصالح المتبادلة التي تحفظ حقوق الطرفين.

هذه القراءة المتشائمة لمستقبل الواقع العربي بأي من أشكالها واردة الحدوث، وقد تجتمع في آن واحد (فقد يحدث الانفلات الأمني السياسي، لتتكوّن من خلاله أشكال سياسية جديدة، فتدرك بعد ذلك القوى الدولية أنها تجاوزت الحدود المقبولة وغير المقبولة في تعاملها المتعالي مع العالم العربي)، ويمكن أن يتحول التشاؤم إلى التفاؤل بحدوث تغيير ذاتي من الداخل العربي مبني على تجارب الماضي واستجابة لمتطلبات المرحلة فيدرك قادة العالم العربي أن من اللازم أن يحدث التغيير من الداخل، وأنه يتعين أن يتم رسم المستقبل العربي اعتمادا على الذات العربية بإرادة داخلية قبل فوات الأوان.

ولكن ألم يفت الآون؟ وهل في أوضاع البيت العربي وواقعة متسع لاحتمالات وتجارب جديدة؟ وهل نجح العالم العربي في تجاوز واحدة من مشكلاته الكلية لتكون تجربة يسترشد بها لمشروع خطوات لاحقة؟

 ويمكن أن يأخذنا النظر الصريح للواقع العربي للقول: وهو في اعتقادي سؤال مشروع باعتبار الواقع، هل لا تزال المظلة العربية هي الإطار والخيار الأمثل لمعالجة قضايانا؟ ألا يمكن أن تكون التحالفات العربية الإقليمية هي الخيار المرحلي الأمثل؟ باعتبار تقارب وجهات النظر وتضييق مساحة الاختلاف في الرؤى، خذ مثلا: هل يمكن أن يتخذ العالم العربي مجتمعاً قرارا بإنشاء مفاعل نووي سلمي يلبي حاجة العالم العربي من هذه التقنية؟ ألم ينجح مجلس التعاون الخليجي (وهو مظلة عربية إقليمية) في اتخاذ مثل هذا القرار الاستراتيجي؟! وهل سينجح لو سعى لتحقيق هذا المطلب الشرعي من خلال جامعة الدول العربية؟ بالتأكيد سيفشل مجرد التفكير به، بل سيفشل الاتفاق على أن يكون ضمن جدول أعمال القادة العرب! لذا هل لا يزال قدرنا مربوطا بالإطار العربي الشامل رغم كل تناقضاته وتراكمات الفشل العربي المشترك (ولعل الفشل هو القاسم العربي المشترك بين الأطراف العربية في الاتفاق على مصلحة عربية مشتركة)، والحال هذه هل يمكننا أن نتفاءل بالاعتماد على الذات العربية في معالجة القضايا المصيرية للشعوب العربية ورسم مستقبل غدٍ مشرقٍ؟ بكل يقين التجارب لا أعتقد، ولكن ألا يمكننا أن نعتمد على ذواتنا بأشكال فرعية إقليمية أو غيرها من أشكال التجمعات؟ حتى يبقى لنا أمل ولو جزئي بأن هناك ذاتا عربية يمكن الاعتماد عليها. 

* مستشار وباحث سعودي في الشؤون الروسية

 [email protected]