إيران والعرب والدور الذي على العراق أن يلعبه

TT

زيارة الرئيس الايراني احمدي نجاد الى العراق أثارت الكثير من الاهتمام وردود الفعل التي لا تحصل في هكذا نوع من الاحداث، وتباينت الآراء حتى لم يجمعها جامع سوى الافراط في تقييم الحدث والميل الى أدلجته. والحقيقة ان هذا الأمر مفهوم نظرا لتاريخ البلدين والمنطقة ككل. والمؤسف انه لا يبدو عموما ان لهذا التاريخ قيمة ما أو ان لدروس الماضي معنى لدى أحد. الأمر يتعلق بمنطقة لا يتحمل أحد تكلفة الفوضى فيها، لكنها وللمفارقة منطقة تعد تكلفة استقرارها الأبهظ ثمنا في العالم.

كلما لبست ايران ثوبا محافظا في الداخل أصبحت في نظر محيطها قوة ثورية تسعى الى التغيير، وكلما ادركها محيطها كذلك أخذ يجاهد لمقاومة الامتداد الايراني، وفي الغالب يكون على العراق الساحة الكبرى الفاصلة بين «العالمين» العربي والفارسي ان يدفع الثمن الاكبر.

بعد الثورة الاسلامية في ايران انيطت بصدام حسين، او هو أناط لنفسه، مهمة التصدي لاحتمالات التثوير القادمة من هناك، ودفعت دول الخليج قدرا كبيرا من تكاليف هذه الحرب في حين بدأ العراق رحلة انحداره الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تكلفتها بالأرقام 500 مليار دولار، لكن تكلفتها على صعيد ما أسسته لانهيار قيمي واجتماعي أكبر بكثير. انتهت الحرب التي مازال الكثيرون يجهلون أسبابها الى حال اللاغالب واللامغلوب وتحول العراق الى نموذج للدولة العسكرتارية التي لا يستطيع نظامها أن يستمر من دون استمرار عسكرة المجتمع. طلب صدام من دول الخليج أن تواصل تمويله وان تسدد الجميل، وعندما واجه الرفض احتل الكويت وأرسل رسالة الى رفسنجاني يقبل فيها بكل ما طلبته ايران في مفاوضات ما بعد الحرب، خاتما رسالته بعبارة «وكأن شيئا لم يكن»، وهكذا ربح الايرانيون تلك الحرب سياسيا وربح النظام الاقليمي العربي عبر الوهن الذي أصاب نزعة التثوير لدى ايران وتوقفها عن تهديد استقرار المنطقة وربح الغرب ببيع أسلحة الى المتحاربين والى دول الخليج وبالإنهاك الذي أصاب البلدين، وخسر العراق كل شيء.

مشكلة العراق انه عندما يكون قويا يدفع دائما للاختيار بين العوالم التي تحيطه، وعندما يكون ضعيفا يصبح ساحة لصراع هذه العوالم. الأمر لا يتعلق فقط بالصراع الايراني الخليجي، بل وأيضا بالصراع التقليدي الايراني ـ التركي الذي لم يكن ليتراجع لولا قرار تركيا الاتاتوركية التوجه نحو الغرب. التعليقات على زيارة نجاد الى العراق فهمت على خلفية هذا الصراع، كما ان تلك الزيارة ليست بريئة منه. العراق ليس مكانا يمكن تجاهله أو عزله، بل يمكن فقط التنافس عليه او التنافس به وهو في الحالتين الخاسر الوحيد.

مشكلة العراق ليست في ان جيرانه يتدخلون بل في انه عاجز عن ان يؤسس لنفسه هوية تجعله خارج اطار صراع الجيران، بل والأهم من ذلك، تجعله جسرا بين هؤلاء الجيران. العراق لا يمكن ان يستقر أو ينهض او يبني دولة مدنية حديثة اذا اختار لنفسه أحد الدورين المعروضين عليه: اما ان يصطف مع جانب ضد آخر او يكون ساحة لصراع الآخرين. ولذلك يبدو اللهاث باتجاه علاقة استراتيجية وثيقة مع ايران تكرارا معاكسا لخطأ صدام إن لم يوازنه حراك متحمس نحو الفضاء العربي.

عندما تبنى هوية العراق على أساس العداء لأحد جيرانه فإنها تكون هوية مبتورة ضعيفة هائمة تربط مصير البلد بمتغيرات السياسة بدلا من ان تجعل الاخيرة تابعة لذلك المصير. ان البلدان تكون اكثر قوة عندما تسند هوياتها الى الامل لا الخوف، على الانفتاح لا الانغلاق، والى التعاطي مع المحيط لا الانكفاء عنه، خصوصا عندما يكون هذا الانكفاء مستحيلا كما في حالة العراق اليوم.

العراق اليوم ولأول مرة في تاريخه يصنع سياسته الداخلية على أساس المساومة بين مكوناته لا على أساس الإلغاء، هذه العملية قد تكون ناقصة وقد تشهد ارتدادا وقد تتلاشى تحت الحاح ثقافة الاستئثار واختزالات الايديولوجيا وعدم نضج الطبقة السياسية. ولكنها اذا ما سارت بشكل وطيد ستكون فرصة فريدة للعراقيين لإعادة اكتشاف اهمية بلدهم وثراء تاريخهم ومعنى ان تستوعب هويتهم الجامعة خصوصيات اجزائها ولا تلغي حقائق التاريخ والجغرافيا. بالطبع قد يدرك العراقيون أنهم عاجزون عن ان يؤسسوا لهوية جامعة، وهو أمر يمكن تصوره في ظل عمق التباين بينهم اليوم فيختارون ألا يكونوا مع بعض وهو في اي حال الخيار الاقل سوءا من ان يقاتل بعضهم البعض.

الحقيقة الاساسية ان العراق إذا ظل بلدا موحدا فهو اكبر من ان يختزل الى تابع لإيران او لأي من دول جواره. وتلك الحقيقة هي التي يجب ان يدركها من يخشى خضوع العراق لجار آخر. ولذلك فان على الجوار العربي مسؤولية كما ان على العراقيين مسؤوليات. العرب يجب ان يدركوا أن العراق بحاجة اليهم كي يبقى موحدا، كما انهم بحاجة الى وحدته تلك اذا كان الخطر الايراني هو ما يخشونه. والعراق الموحد بأسلوب عسكرتاري هو أمر أثبت ضرره للعرب لحظة غزو الكويت كما انه بعيد المنال مع عجز الجيش الأميركي عن فرض قبضته عليه. العراق الموحد عبر تراضي ابنائه ومكوناته هو الضمان الاستراتيجي ضد هيمنة وطغيان أحد جيرانه بقدر ما هو الجسر القادر على ربط هؤلاء الجيران. هناك أجندات أخرى قد تكون الاسرائيلية بينها وقد تكون مدعومة ببعض دوائر التأثير في اميركا تميل الى تعزيز الانقسام الطائفي داخل المنطقة وقد تسعى الى ان تمنع العراق من هكذا دور. لكن اذا كان هناك شيء ينبغي تعلمه من التاريخ فهو ان الصراع الايراني العربي سواء كان العراق فيه رديفا لأحد الطرفين او ساحة للمواجهة بينهما، هو صراع لا رابح فيه، جميع اطرافه خاسرون، إلا ان العراق هو دائما من يدفع الثمن الأكبر، وهذه المرة سيكون الثمن ليس أقل من وجوده؛ وهو ثمن لا أحسب أن أحدا بنية سليمة يسعى اليه.