نعم .. هو صراع وجود

TT

تبدأ أي كارثة على الأرض بالاستخدام المغرض للكلمات، بهدف الاستيلاء على وعي الناس وتحويل مجراه بعيدا عن الحق والحقيقة، الأمر هنا أشبه بتحويل الكلمات إلى سلاح دمار شامل تعجز عن مواجهته بكلمات أخرى مستمدة من قاموس العقل والمنطق. ومن أشهر مقولات سلاح الدمار الشامل في الصراع العربي الإسرائيلي، جملة «الصراع بيننا وبينهم ليس صراع حدود بل هو صراع وجود»، وكانت المرة الأولى التي أطلق فيها هذا الشعار، هي بعد انسحاب القوات الإسرائيلية إلى حدود مصر الدولية بموجب اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية. وكان الهدف منها هو حرمان المصريين من الإحساس بالارتياح لانزياح قوات الاحتلال عن أرضهم، وبالتالي تفريغ عملية السلام نفسها من معناها الحقيقي وهو عودة سيادة المصريين على أرضهم، لسبب يرونه بسيطا وواضحا ومقنعا أيضا، أن القضية أصلا بيننا وبين إسرائيل لم تكن صراعا على الحدود، بل على الوجود. هو شعار أشبه بالقنبلة العنقودية المحرمة دوليا لأنها معبأة بقنابل صغيرة تنطلق وتنفجر في أجساد البشر في كل الاتجاهات، الشعار سهل الهضم والاعتناق ومعناه الذي لا يقبل اللبس، هو السلام بيننا وبينهم أو أية تسويات أخرى لا معنى لها ولا مطلب لنا فيها، فوجودهم كأمة ودولة يلغي من الأساس وجودنا كأمة ودول، وبذلك تكون المعادلة بين وجودهم ووجودنا صفرية، وهذا ما يجعل الحل الحتمي لهذا الصراع الطويل الدامي هو أن يوجدوا هم أو نوجد نحن.. هناك مشروعان فقط في هذه المنطقة العربية.. القومية العربية في مواجهة القومية الصهيونية.. ولا وجود لقومية منهما في وجود الأخرى.. فماذا تختار يا زميل؟

الخدعة الأساسية في هذا الشعار هي أنه في جوهره لا يتكلم على الوجود بل على العدم، عن الفناء، أن نفنى نحن أو يفنوا هم، أن نعدمهم أو يعدمونا ولا ثالث لهما. ولأنه من الناحية العملية يستحيل في هذا العصر أن يقوم شعب بإفناء شعب آخر، لذلك وعند تحويل الشعار لإجراءات عملية، كان المتاح فقط الاكتفاء بمحاولة إفنائهم على المدى البعيد مع السماح لهم بالطبع بمحاولة إفنائنا على نفس المدى. غير أنه لا أحد من كل الاتجاهات الثورية الراديكالية صارح الناس بهذا التفسير الذى يعنيه بكلمة الوجود، جهة واحدة فقط كان لديها الشجاعة الكافية لاعتناق هذا التفسير وإعلانه على العالم كله وهي جماعة حماس، هكذا دارت عجلة الفناء والإفناء بين الفريقين في مباراة وحشية، الله وحده يعلم الوقت المقرر لها. اسمحوا لي أنا أيضا أن أستخدم نفس الشعار ولكن بتفسير مخالف أراه يخدم الحق والحقيقة كما يخدم مصالح كل الأطراف، نعم.. هو صراع وجود بين الدول العربية والدولة العبرية، بمعنى الوصول إلى صيغة يتمكن فيها الطرفان من الحفاظ على وجودهما، ومن البديهي أن هذا الهدف مستحيل التحقق في غياب السلام بين الجانبين.

غير أنه لا بد من التأكيد على أن وجود الجماعة ليس أكثر من وهم في غياب وجود الفرد المستمتع بكل حقوقه الإنسانية، وبذلك يكون صراع الوجود بيننا وبينهم هو في جوهره سباق جاد لإعادة القدسية لحقوق الإنسان الفرد في الحياة الكريمة والحرية. أنا موجود بقدر ما أعطيه للوجود من أجل جعله أكثر ثراء، أنا موجود عندما لا أهدد وجودك بصواريخى أو أحلامي بإزالتك، وأنت موجود فقط عندما تمتنع عن تهديد وجودي بمدرعاتك وصواريخك وطائراتك.. أن نوجد معا، هذا هو الهدف الذى يجب أن نسعى إليه، لا بد أن نوجد معا لنعمل من أجل هدف واحد هو تحقيق حقوق الإنسان الفرد التي بغيابها يعجز الإنسان عن تقديم الإجابات التي يطرحها عليه الوجود، وتكون النتيجة المحزنة هي أنه تحت وطأة هذا العجز لا بد أن يتحول البشر إلى مقاتلين تعساء يحاربون وجودهم ذاته. هناك جملة شهيرة كثيرا ما ترددت في خطابات السادات وهي «رفع المعاناة عن الشعب الفلسطيني»، هذا هو ما يجب على المفاوض الفلسطيني أن يحققه حتى لو قطع في كل يوم بوصة واحدة على هذا الطريق.

إن أكثر صيحات الاستغاثة الإنسانية صدقا التي سمعتها في حياتي كانت لأحد سكان غزة في أحد برامج إذاعة الـBBC، كانت الصيحة هي: بدنا نعيش يا ناس.

هذه هي القضية وهذا هو الهدف وهذا هو الشعار الصحيح، أن تعيش الناس.