طبيب رغم أنفه .. شاعر رغم فقره!

TT

لي صديق طبيب في إحدى العواصم العربية يعشق الأدب من رأسه حتى قدميه، فلم أزره يوما إلا كان في يده كتاب في النقد، أو رواية، أو ديوان شعر، وفي المرات القليلة التي زرت فيها عيادته بدافع العلاج، كان ينسى أن يكتب لي «روشتة» الدواء ليقدم لي بدلا منها كتابا يرى ضرورة قراءته..

وكثيرا ما كنت أسأله:

ـ هل بقي في الذهن مساحة للطب؟!

فيقول بحسرة:

ـ لقد أصبحت طبيبا رغم أنفي إرضاء لأسرة تشبه أسرة الأديب الفرنسي جوستاف فلوبير التي احتجت على نزوع ابنها إلى الأدب قائلة: «نحن آل فلوبير أسرة محترمة من الأطباء، ولا نحب أن يكون بيننا أفاقون ولا شعراء».

ويضيف قائلا: «لكن رأي الأسرة جلب لي حياة مادية مستقرة، ولم يجلب لي السعادة».

ومضت سنوات قبل أن أجد نفسي في تلك العاصمة من جديد أبحث عن عيادته، فوجدتها قد تحولت إلى دار نشر، لتحل على رفوفها الكتب بدلا من زجاجات الدواء، وكان قد خلع معطف الأطباء الأبيض ليرتدي ورق الكتابة..

نظر إلي من خلف نظارته «كعب الفنجان» مبتسما، وهو يقول:

ـ مفاجأة.. أليس كذلك؟!

قلت: وهل أدركتك حرفة الأدب يا صديقي؟

فأطرق رأسه قليلا وهو يقول: أجلس لتسمع حكاية..

فلقد أنفق الرجل في عام واحد على الكتب ما جمعه من عمله كطبيب، ودخل في مرحلة شظف العيش التي تشكل السمة الغالبة لأهل الأدب، ولم تستطع الزوجة التي اعتادت لسنوات أن تعيش كزوجة طبيب، أن تتكيف مع الحياة الجديدة كزوجة لرجل مشرد، يحاصره الفقر والدائنون، فرحلت باحثة عن ماء وكلأ ومرعى بعيدا عن ذلك البيت الذي داهمه الجفاف..

ومع هذا لم يكن الرجل نادما، ولا متحسرا، ولا متبرما، كان سعيدا بحياته الجديدة، وهو يقدم لي ديوان شعر هو باكورة نتاجه الأدبي، كاتبا لي إهداء على صفحته الأولى: «بين يديك شهادة ميلاد حياتي الجديدة».. وحينما تصفحت أبيات ذلك الديوان ازددت يقينا بأن ذلك الرجل ولد شاعرا، فخطفت ذاته المعاطف البيضاء أعواما قبل أن يعثر عليها وسط كومة الكتب التي تحيط به من كل الجهات..

إنه لم يخلق لغير هذا.

[email protected]