النكتة سلاح المكبوت

TT

عبر الكثير من المفكرين عن رأيهم بأن النكتة السياسية سلاح الجمهور المحروم من حرية النقد والتعبير. كان اول من نبه الى ذلك ارسطو في كلامه عن الكوميديا بأنها تكشف عن العيوب تمهيدا لإصلاحها. اشار كامل الشناوي الى دورها في مقارعة الاحتلال الأجنبي فقال: «كانت النكتة السلاح السري الهدام الذي استخدمه المصريون ضد الغزاة وقوى الاحتلال. كانت المخرب الذي خرق قصور الحكام، واقتحم حصون الطغاة، فأقلق راحتهم وملأ قلوبهم رعبا». وذكر مصطفى أمين شيئا مشابها، ولكنني وجدت كلمات عادل حمودة في كتابه القيم «كيف يسخر المصريون من حكامهم»، خير وصف للنكتة بأنها «سلاح بدون ترخيص». وعلى هذا النهج ذكر جورج ارويل، مؤلف أعظم حكاية ساخرة «حقل الحيوانات»، فقال إن النكتة هي ثورة صغيرة.

الجميل في هذا السلاح انه يقوم على اللاعنف والنقد السلمي. فالضحك يبدد العنف. لا أحد يضحك وهو يضرب زوجته او يفجر نفسه او يقتل أحدا. هذا التزاوج بين المتعة، متعة الضحك، واللاعنف، الجهاد المدني، هو ما جرني في الواقع الى امتهان السخرية. النكتة مثل الشعر. فنحن نطرب لأوزان الشاعر ونسامحه على ما يقول وبما لا نسمح به للناثر. وكذا الأمر بالنسبة للنكتة. نضحك على النكتة ونغض النظر عن قائلها ومدلولها. إنها سلاح من دون ترخيص ومن دون تقتيل وتفجير. أراها في كثير من الأحيان وسيلة صحية جيدة وسليمة للتنفيس عن الهموم وتبديد الغضب. اعتقد ان انغماس المصريين بالنكتة والفكاهة يصاحب ميلهم لتحاشي العنف والتطرف، على عكس العراقيين الذين لم يتميزوا بروح الفكاهة فآثروا التعبير عن غضبهم وهمومهم بالضرب والقتل. وهو ما ينبغي ان يشجع الحكام على تشجيع روح الفكاهة والسخرية.

مارست سائر الشعوب اسلوب النقد والمعارضة عن طريق التنكيت والتبكيت. وكلما تعسف الحكام في بطشهم وقمعهم ازداد الجمهور في النيل منهم بالنكتة. وبالطبع كان لكل شعب أسلوبه بما ينسجم مع ظروفه وثقافته وأدبه. فباعتبارنا أمة تعيش في لغتها نجد ان معظم نكاتنا تعتمد على اللعب بالكلمات والنصوص في حين نجد الغربيين المتشربين بالروح العلمية يتوخون اللعب بالمنطق والمعنى. كما ان شيوع المسرح بينهم أكسب فكاهتهم منحى الحوار. بيد ان العصرنة والعولمة أخذت تعمل الآن في إشاعة النكات والسخرية عالميا بما يجعلها تتخطى القيود والحدود والسدود. أصبحنا نرى نفس النكتة الألمانية التي قيلت عن هتلر، انتقلت الى مصر فقيلت عن ناصر او السادات ثم عبرت الى العراق فقيلت عن قاسم وصدام. وهذا تطور محمود يجعل النكتة ليست مجرد سلاح بدون ترخيص، وإنما يجعلها كذلك سلاحا مجانيا، ملكا لكل الشعوب لا يخضع لحقوق طبع أو أجور رخصة. وكمحاولة متواضعة مني، في تشجيع هذه الممارسة البناءة، السلمية واللاعنفية، سأقوم باستعراض شيء من مخلفات شعوب العالم في هذا الميدان.