حنفية الصحافة

TT

عند بداية دخول الماء الجاري، في القاهرة المملوكية تحديدا، ومع ظهور الصنبور، تضررت كثيرا طائفة السقائين ممن كانوا يحملون القرب (جمع قربة) على ظهورهم لسقاية الناس في بيوتهم وكانوا يتقاضون عن ذلك أجرا يؤمن لهم عيشهم. الصنبور والمياه الجارية فيهما قطع لأرزاق السقائين، لذا تفتقت أذهان «لوبي» السقائين في تلك الفترة عن استصدار فتوى من أئمة المذاهب الأربعة، تقول بأن الوضوء من ماء الصنبور غير جائز. ولأن «لوبي» السقائين كان قويا استطاعت الجماعة أن تذهب إلى أئمة المذاهب واستصدروا منهم الفتوى المرجوة. وأقر المالكيون والحنابلة وكذلك الشوافع، بأن الوضوء من الصنبور غير محبب في الصلاة. أما أئمة الحنفية الذين لم يكونوا بحاجة لما يدفعه «لوبي» السقائين للمذاهب الأخرى، فقد أفتوا بأن الوضوء من ماء الصنبور مقبول بل ومستحب. وبما أن أئمة الحنفية وحدهم من أقروا استخدام الصنبور ولم يقره غيرهم، أطلق العوام على الصنبور مسمى «الحنفية»، نسبة للمذهب الذي أقره.. ومن هنا جاءت كلمة الحنفية.

ما علاقة ذلك بالصحافة؟ الصحافة مهنة وصناعة، كالسباكة تماما، إما أن تتقنها أو لا. إذا كانت لديك حنفية «بتخر» فلن تذهب إلى رجل يحدثك عن فلسفة الحنفية ومتى يتسرب الماء منها أو لا يتسرب. أنت تريد من يصلحها. تريد سباكا ماهرا. تريد المعلومة لا الرأي.

لا شك أننا في بداية الشوط، حيث ما زال الإعلام عندنا، الفضائي منه خصوصا، حدثا جديدا. ومتوقع في أوقات التحولات أن يغرق السوق الإعلامي بالجيد والرديء قبل أن تحدث تصفية وتنقية له. ولكن تلك التصفية والتنقية لن تتما ما لم نفضح عيوبنا بأنفسنا، وما لم نكتب بلا كلل أو ملل عن حالة اختلاط الغث بالثمين التي نراها على شاشات الفضائيات. ففي حمى الرغبة العارمة في الظهور على الشاشة، فرضت على العالم العربي جماعات بعينها لتقود الرأي العام، قد لا يكون بعض أصحابها قد قرأوا كتابا واحدا في حياتهم ولكنهم غدوا نجوما فرضتهم الفضائيات كوجوه تمثل الثقافة والحضارة. آن الأوان أن يلتزم الإعلام المرئي المهنية العالية ويتأكد من المؤهلات العلمية الحقيقية لمن يملأون شاشاته اليوم.. الدكتور الفلاني أو العلاني، من أين حصل على الدكتوراه، وفي أي فرع من العلوم، حتى يدلي بدلوه في الشأن العام ويقدم تحليلا ورأيا لجمهور من المشاهدين المتشوقين للمعلومة؟

النقاش حول الإعلام العربي اليوم ضرورة. كما أنه من الضرورة أن تظهر على السطح مجلات وصفحات متخصصة لنقد الإعلام العربي نقدا جادا وفضح هفواته التي زادت عن الحد. النقد ضروري، فكلما زاد فهمنا لدور الإعلام الحيوي في تطوير مجتمعاتنا، تتبين الضرورة لمراقبة هذا الإعلام بغية وصوله إلى مزيد من المهنية وليس مراقبته لأجل الرقابة فقط أو لعرقلته وإرباكه. فليس من المعقول أن يطلق العنان لكل من لديه عمود في صحيفة أو برنامج على شاشة أن يقول معلومات خاطئة ومضللة، ويتركه النقاد والمتخصصون وحال سبيله. حان وقت المكاشفة، ليخرج الإعلام العربي من مراهقة «العنتريات» إلى رشد المهنية.

في صحافتنا اليوم حالة من الفقر المدهش في وجود الصحافيين الذين يقدمون المعلومات، وفي الوقت نفسه هناك حالة تخمة من الصحافيين المنظرين أصحاب الآراء. فبعض الصحافيين العرب يتصورون بأن الصحافة هي اتخاذ موقف من القضايا الجارية والأحداث اليومية والساخنة المحلية والدولية والعالمية. لا أن الصحافة هي نقل المعلومة والخبر عن هذه الأحداث. الفارق الذي يميز الصحافة الجيدة عن الصحافة غير الجيدة هو المهنية التي تتوخى الدقة والموضوعية والحياد والتوازن. وهذه، أي الصحافة الجيدة، يمكن أن تجدها في مجتمعات حرة أو في مجتمعات غير حرة. فالمهنية العالية لها علاقة بسلوك فردي أخلاقي أكثر مما لها علاقة بالمجموع. فكما هناك سباك بريطاني ومصري وكولومبي «شاطر»، وسباك بريطاني ومصري وكولومبي «تعبان».. يمكنك أيضا أن تجد صحافيا بريطانيا أو فرنسيا أو سوريا يتمتع بمهنية عالية وفي الوقت نفسه تجد صحافيا بريطانيا أو فرنسيا أو سوريا ينظر إلى كتاباتهم وتقاريرهم نظرة الشك والريبة.. المهنية لا وطن محددا لها، هي موقف الفرد الأخلاقي من احترامه لعمله ومهنته.

ولنأخذ، على سبيل المثال، ما نشرته مجلة «فانتي فير» الأميركية حول المستشار الأمني السابق للرئاسة الفلسطينية، محمد دحلان، واعتمده وتداوله بعض الصحافيين العرب، كحقيقة مؤكدة. «فانتي فير» هي مجلة نسائية، مجلة موضة وملابس ودعاية لأنواع المكياجات والأحذية والعطور، لا تتحرى الدقة في المعلومات، ولا ينظر إليها في السياق الأميركي على أنها مصدر معلومة أو خبر. الخبر الذي يسعى إليه الأميركيون يقرأونه في «النيويورك تايمز» و«الواشنطن بوست» وغيرهما من الصحف الرزينة. لكن الصحافي العربي الذي لا يعرف جيدا الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا، لن يعرف بالطبع أسواقها الصحافية وتصنيف المجلات والصحف في سياقها الثقافي. فهو ينقل إلى قرائه أي «سمك، لبن، تمر هندي» ينشر في الغرب طالما هو تصفية حسابات مع أشخاص لا يحبهم. أمر غريب أن تهتم مجلة كـ«فانتي فير» بأمر شخصية سياسية عربية أصلا، ولكني أفضل ألا أتصور بأن دافع المجلة للكتابة عن دحلان هو تلبية لرغبة قرائها من جماعة «حماس»، فالإخوة في «حماس» لا يجمعهم فكريا مع «فانتي فير» أي جامع.. أما لو كانوا من قرائها ونحن لا نعلم فتلك مادة لموضوع جديد ومقال جديد.. ولكن تبقى الخطورة في المثال الذي أوردته في أن يردد الصحافي، كالببغاء، معلومة من دون التأكد من صدقيتها لمجرد أنها تخدم جهة يناصرها.

مشكلة حقيقية في الصحافة العربية هي ظاهرة «الشفويون العرب». ولكن الأساس في تكريسها هي تيارات تقنية كبرى نتيجة لعوامل تنموية متقلبة لا دخل للصحافيين بها. فما ان بدأت تدخل الكتابة عندنا من خلال المطبعة والآلة الكاتبة لتخرجنا من العالم الشفوي، حتى جاء الترانزستور والراديو وأعادنا إليه مرة أخرى، ثم جاء الكومبيوتر وأدخلنا عالم الكتابة مجددا، إلا أن عصر الفضائيات والموبايلات هجم علينا، وتغير استخدام الكومبيوتر من الكتابة إلى الصورة، وأصبح متعدد الاستخدامات التي يعتمد الكثير منها على الصوت والصورة لا على الكلمة، فدخل العرب مرة أخرى العالم الشفوي.

الفارق بين الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب، هو أن في الكتابة منطقا صارما يفضح عدم الدقة، أما في الصورة والصوت فهنا لقطات و«عضات» صوتية متناثرة. الصوت والصورة يقعان في العالم الشفوي الذي بدأ يعيد إنتاج عالمنا بما فيه من تخلف إلكترونيا، ومهما أعيد إنتاج التخلف أو أعيد تغليفه، فهو تخلف بلا شك. حنفية الإعلام «بتخر»، وبشكل مدهش، ومع ذلك يتحدث الكثير من الإعلاميين العرب اليوم عن مشكلة الحنفية الإعلامية العربية، ويحلفون بأغلظ الأيمان أن شيئا في عالمنا لن ينصلح إلا بعد إصلاح الحنفية. ويتنابذ البعض منهم بالألقاب وهم يهجون حنفيات الآخرين «إللي بتخر»، متجاهلين حنفياتهم الشخصية، ومتجاهلين أيضا أنهم أحيانا السبب في خراب الحنفية، وأنهم من جعل فعل «خر» الحنفيات موضة، أو على الأقل، مقبولا.