شيكاغو والكروان

TT

لم يستطع تشارلز ديكنز الخروج من آلام طفولته ولا من صورها. صار اشهر روائيي عصره لكن المعاناة الأولى ظلت تمسك بيده وتكتب له الحوارات الأليمة. لا شيء يلاحقنا مثل طفولتنا، في قسوتها وفي حلاوتها. وكلما كبرنا وزدنا حكمة حلمنا بالعودة إلى لهو الأيام الأولى وحرية المشاعر. ولكن لا عودة في الحقيقة، بل فقط في الحنين. لم ندرك معنى السنين إلا بعدما أصبحت حصى متروكة في القبر وفوق بلاط الأرصفة في المدن. وما في إمكاننا أن نصحح خطأ ولا أن نستعيد فرحا. سائرون في خط مستقيم منذ إغواء الفردوس الأول. نفقد من يكبرنا ونرزق بمن يلينا. نخطئ في من نعشق ونخطئ في من نصادق. ونخطئ في من نثق. ونصيب في القلة. وهذه تعزية الحياة. والذاكرة تغفر لكنها لا تنسى وعبثا أحاول أن أتوسلها في ذلك. إنها، الذاكرة، عدوتنا وخبزنا في آن.

جاء ديكنز إلى الرواية من الصحافة. مثل همنغواي. مثل غابرييل غارسيا ماركيز. مثل كثيرين. لكن ليس ذلك ضروريا على الدوام. علاء الأسواني جاء من كلية طب الأسنان في جامعة شيكاغو. ومن الكلية نفسها سوف تتخرج الأديبة السعودية رجاء الصانع، صاحبة «بنات الرياض» التي نقلت إلى 23 لغة. وعن شيكاغو المدينة وضع علاء الأسواني روايته الثانية «شيكاغو». ولكن أشخاصها جميعا، مثل «عمارة يعقوبيان»، جميعا مصريون. طلاب وطالبات ودبلوماسيون ومخبرون من النوع المتبرع لا المكلف. أي النوع النمام والكاذب، لا فريق الحراسة.

ومشكلتي مع «شيكاغو» في طبعتها السابعة أو العاشرة (دار الشروق) هي مشكلة كل قارئ مع كتاب طاغ. لا يستطيع أحد أن يمتنع عن المقارنة مع «عمارة يعقوبيان»: أيهما أفضل؟ هل فقد الأسواني زخمه؟ هل هو مثل معظم كتّاب العالم عبر التاريخ، صاحب كتاب واحد سوف يتكرر في كتب أخرى تحت عناوين مختلفة؟ لا أدري. فأنا قد أخذتُ كثيرا بالبناء الروائي في «عمارة يعقوبيان». ولن يكون حكمي عادلا. ثم إن الأسواني أفاض قليلا في استخدام بعض الإباحيات. لماذا؟ هل يحتاج المؤلف المشهود والمعتبر، إلى مثل هذه البهارات؟ لا أعتقد.

لكن «شيكاغو» في أي حال، عمر روائي محبوك وأشخاص وطبائع من مصر. و«بطلاها» الرئيسيان، أو «تياراها»، الخير والشر. وهذه مسألة لا تتغير، لا في الملاحم ولا في المسرح ولا في الرواية. وتكاد إحدى بطلات الأسواني تعاني مثل بطلة «دعاء الكروان» عند طه حسين. ولكنها هنا طالبة في شيكاغو. وقادرة على ردّ بعض الظلم، بعكس الزمن الماضي.