وهل يفشل الإنسان حين ينجح؟

TT

عندما يسألك أحد كيف يمكن أن ينتصر على ضعفه ويطور من إمكاناته ليحقق كسبا ماديا رابحا أو علما نافعا، قد لا تجد صعوبة كبيرة في توجيهه وإرشاده. ولكن عندما يأتيك شخص ليقول لك إنّه لا يعاني من الفشل ولكن يعاني من مشكلات التوفيق والنجاح ويحاول قدر الإمكان الإفلات من الوقوع في منطقه المدمر وأسره الناعم بحسب وصفه، فإنه من المؤكد أنّك ستفكر مليا قبل أن تجيبه، لأن السبيل إلى تجنب الأخطاء ومعرفة أسباب التفوق أيسر بكثير من البحث عن التخلص من المسؤولية التي يستوجبها التفوق.

مفارقة قد تبدو غريبة وقد تبدو للبعض من عبث القول، ولكن ذلك ما حصل لي وأنا أستمع إلى شاب تخرج حديثا وبتفوق من أرقى الجامعات الفرنسية في قانون المعاملات. بدأ حديثه متسائلا عن حقيقة العبودية وإلى أي حد يمكن القول إن عهدها قد ولّى وانقضى؟ قلت له إذا كان المقصود بالعبودية امتلاك إنسان لإنسان مثله امتلاكا يجعله مطلق التصرف فيه وهو بحكم اعتقاده أو بحكم اعتقاد مالكه لا يستطيع أو لا يرى إمكانية الفكاك من هذه الوضعية استجابة لضرورة التراتب بين الناس كما زعم قدماء الفلاسفة ومن سار على نهجهم حين قالوا إن العبيد هم آلات بشرية لأنهم عاجزون عن التصرف بطريقة عقلانية، ومن هنا كانت حاجتهم إلى سيد وقد سبق أن فنّد ابن خلدون حجتهم بالقول إن العبد إذا كان ذكيا وأمينا فإنّه لن يقبل أن يكون عبدا وإذا كان غبيا وغير أمين فإنّه لا يصلح للخدمة، قلت له: إذا كان هذا هو المقصود بالعبودية فإنّه يمكن القول إنّ الاستعباد على هذا النحو قد انقرض بالفعل. وإذا كان المقصود بالعبودية الشعور بأن تأمين ضرورات الحياة مرتبط بالعمل في مؤسسة ما سواء كانت حرة أو حكومية وأن التفريط في عقد العمل القريب من الإباق القديم قد يؤدي بصاحبه إلى الانتحار العضوي أو الاجتماعي ولنا في ظاهرة البطالة أمثلة عديدة على ذلك، فإنّه يمكن القول إن العبودية بهذا الشكل لم تنقرض بل زادت واتسعت بالرغم من المظاهر الناعمة التي تزينت بها.

قال لي ذلك ما يؤرقني بالفعل، تلك الأشكال الناعمة التي تتخذها العبودية اليوم، فأنا بالشهادة العلمية التي أحملها يمكن لي أن ألتحق بأي شركة من الشركات العالمية الكبرى وبلا شك سيعرضون عليّ راتبا مغريا، وسأقدم لهم الخدمات التي يطلبونها، وكلّما زادت خدماتي عملوا ما في وسعهم للإبقاء عليّ بينهم ولكن السؤال الذي أرهقني هو: ما الرسالة التي سأحملها وما الخدمات التي سأقدّمها لأمة طالما تغنينا بها وعاهدنا أنفسنا على العمل من أجلها؟ لن أكون في حقيقة الأمر أكثر من أجير من النوع الراقي ولعلّي سأتمتع بكل أشكال الرفاه المادي التي تجعلني في خدمة سيد لا يظهر في الصورة إلا نادرا، ولكنّه هو وأمثاله من كبار الرأسماليين يشكلون الفئة التي تسيّر العالم بالفعل، هم صنّاع القرار الحقيقيون، وكم جرّوا بدعمهم للسياسات المتهورة لبعض الحكام ـ بحثا عن مزيد من الربح ـ الويلات والمصائب على شعوب أرادوها معدمة الجيب ومعدومة الإرادة. وأضاف مقهورا: ألا أسهم بذلك بصورة ما في تقوية هذا النظام الرأسمالي البشع وتعزيز سياسات النهب العالمي لخيرات الشعوب؟ في حين أنّه كان من المفروض أن أقاوم هذا النظام الظالم الذي يستهوي الناس بشعارات السعادة الأرضية للجميع، في الوقت الذي تستحوذ فيه فئة قد لا تتجاوز العشرين من المائة من سكان المعمورة على ما يفوق الثمانين بالمائة من ثروة العالم. قلت له قد يكون في كلامك شيئا من الوجاهة ولكن ألا ترى لو أنّك اخترت أن تكون خارج النسق، رافضا الانصياع الإيجابي لهذا النظام السائد، ألا تتحول إلى خادم له من دون أن تتمتع بهذه الامتيازات المادية، ستكون خادما له لأنّه سيحسن إليك ببعض الفتات وبذلك يتزيّن بلبوس المحبة والرحمة وهكذا يفعل؟

قال: نعم ولكن كيف يكون الانصياع إيجابيا؟ قلت له دعنا ننظر أولا في المسألة التي أثرتها من جوانبها المختلفة. كانت وما زالت مشكلة الفشل الدراسي لأبناء المهاجرين من الأسباب التي تجعلهم عرضه للتهميش الاجتماعي وفي أحسن الأحوال الانخراط في المهن التي تأتي في أدنى السلم، فينمو عندهم الشعور العدائي للمجتمع الذي يعيشون فيه وتحصل عندهم تدريجيا فكرة القطيعة مع نظمه ومؤسساته، وتستهويهم الدعوة إلى الثورة عليه وتزداد نقمتهم عليه عندما يرون أن من استطاع من أبناء جلدهم أن يحتل موقعا مهما ينقلب عليهم ويتنكر لهم فتصبح نقمتهم مزدوجة، نقمة على المجتمع الذي لم يوفر فرصا متكافئة للنجاح ونقمة على المتفوقين منهم لأنهم اختاروا الانصياع السلبي بل أصبح البعض منهم في المواقع الأمامية لتعميق تهميشهم.

ولعل ندرة ذلك النوع من النخبة التي تحافظ على جسور التواصل مع بيئتها الأصلية والدفاع عن قضاياها بمقتضى ما تتضمنه قوانين البلاد من حقوق للجميع وما توفره من وسائل وأساليب، يجعل المتفوقين الشرفاء يخشون المغامرة من الانتساق ويخافون أن تصيبهم جرثومة الاستعلاء. ذلك ما نسميه بالانصياع الإيجابي وبذلك نستطيع أن ننتقل من الحديث عن مشكلات النجاح إلى الحديث عن منجزات النجاح. أما هروب الفاشلين إلى الأزقة ورفع شعارات الثورة وهروب المتفوقين إلى نظريات التطهّر الحضاري ورفع شعار الاحتماء بالذات والبحث عن نقاوة كاملة قد يكون من المستحيل تحققها، فإنّه يؤدي في النهاية ـ بالرغم من الاختلاف في المنطلقات ـ إلى مزيد من التهميش ومزيد من العجز عن تحقيق الفعالية.

الدعوة إلى الالتزام بمبادئ الحق والعدالة ليس لها معنى إذا ظلت كلاما نتداوله ونحن خارج دائرة الفعل، كالمعدم الذي يدّعي زهدا في الدنيا وهو لا يملك منها شيئا. لا ننفي بذلك صعوبة التوفيق بين الالتزام بالقيم الإنسانية النبيلة وبين العمل في هذه الأوساط التي لا تحركها ـ على الأقل أغلبها الأعم ـ فلسفة الربح المتزايد، ولو كان ذلك سيقود إلى الخراب الشامل. ولكن في مواجهة مثل هذه التحديات يتربّى العظماء.

مهما يكن من أمر فإنّه من المفرح أن يحاول هذا النوع من الشباب إعطاء معنى لأفعالهم ولا يكون همّهم أن يغرفوا ممّا يغرفون ويسيرون مع الركب متوهّمين راحة البال والضمير.

* أستاذ في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس