المقاطعة سلاح أقوى من البندقية

TT

قبل عامين استيقظ العرب ولو لفترة وجيزة على قدرة المقاطعة الاقتصادية، على تغيير مجرى الأمور السياسية والاقتصادية في العالم الغربي، وقد ظهر هذا الشيء واضحا عندما قرر الآلاف من المسلمين مقاطعة البضائع والمنتوجات الدانماركية بسبب إساءة بعض الصحف هناك للرسول (صلى الله عليه وسلم) بنشرهم صورا غير لائقة جرحت شعور العديد من المسلمين في العالم.

وفي نظري هزت هذه المقاطعة آنذاك تلك الدولة أكثر بكثير من المظاهرات الصاخبة والاحتجاجات الدامية، التي عمت العالم العربي والإسلامي. وسبب هذا هو ان الغرب يعلم لغة واحدة وهي لغة الاقتصاد والمال والأرباح، حيث ركزت آنذاك الصحف الغربية على حجم الخسارة المالية التي تكبدتها الدانمارك وآثار البطالة بسبب تعطيل الإنتاج والتصدير والبيع في الأسواق الخارجية، خاصة العالمين العربي والإسلامي. وأسلوب المقاطعة الاقتصادية هو ليس بالشيء الجديد فقد نشرت على صفحات هذه الجريدة الغراء قبل عقد من الزمن قدرة هذا «السلاح» الفتاك على تغيير أفكار صناع القرار في اتخاذ القرارات التي تهم عالمنا العربي، خاصة بما يتعلق بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، حيث أنني آنذاك وضعت باللائمة على المواطن العربي لعدم اهتمامه بهذا الأسلوب من التعامل في الوقت الذي تمارسه الجهات الموالية لإسرائيل بالضغط على أي مؤسسة أو شركة أو مطبوعة ترى بأنها تعارض أو قد تكون منبرا أو مصدرا لانتقاد سياسة إسرائيل تجاه العرب بصورة عامة والفلسطينيين بصورة خاصة.

في عام 1982 كان هناك في لندن مجلة طبية عامة مرغوبة توزع مجانا على الأطباء في إنجلترا، نشرت مقالات عدة كان يكتبها الأستاذ كارل صباغ. وفي احد الأعداد طالب هذا الكاتب من القراء مقاطعة الأولمبياد الطبي الذي كان مقررا ان يعقد في إسرائيل بسبب سياسة رئيس وزرائها، آنذاك مناحيم بيغن الدموية تجاه العرب. وكارل صباغ كان آنذاك من الكتاب المرموقين في بريطانيا انحدر من أب فلسطيني وأم بريطانية، وقد أثار هذا المقال ضجة كبيرة آنذاك قام بها العديد من الأطباء اليهود الموالين لإسرائيل، حيث أمطروا إدارة المجلة بوابل من رسائل الاحتجاج، كان الأخطر منها احتجاجات ورسائل بعثوا بها إلى شركات العقاقير الطبية والصحية التي كانت تنشر إعلاناتها على صفحات المجلة، وطلبوا منها التوقف عن الإعلان في تلك المطبوعة، كما أنهم هددوا الأطباء المحتجين أنفسهم بوقف الوصفات الطبية التي تضعها تلك الشركات عن المرضى، مما أدى بالعديد من تلك الشركات إلى وقف إعلاناتها في تلك المجلة. وبعد أسابيع من تلك الحملة استقال رئيس التحرير من منصبه، وبسبب العجز المالي الذي سببته المقاطعة توقفت المجلة عن الصدور ولم تقم لها قائمة مرة أخرى.

وقد نشرت أيضا المجلة الطبية البريطانية BMJ عام 2004، بحثا لطبيب بريطاني عن الحالة الصحية البيئية التي يتعرض لها الفلسطينيون تحت الاحتلال، فسبب هذا نشر المئات من رسائل الاحتجاج من أطباء موالين لإسرائيل يعارضون البحث ويتهمونه بأنه معادٍ للسامية، كما أنهم بدأوا بالقول بأنه ليس هناك مكان لـ«السياسة» في حقل النشر الطبي في الوقت الذي لم يحركوا ساكنا عندما تنشر المجلة أي بحث يظهر الشعب اليهودي بصورة ايجابية. وهذا المقال أدى بالمجلة لنشر ما يزيد عن 400 رسالة، هدد بها العديد بوقف إصدار الوصفات الطبية لأي شركة تعلن على صفحات المجلة. كما هدد العديد بوقف الاشتراك في تلك المطبوعة.

وأدت هذه الحملة إلى إرغام نائب رئيس التحرير على نشر مقال معاكس من طبيب موالٍ لإسرائيل عن الموضوع نفسه. وبالرغم من هذا كلفت هذه الحملة نائب رئيس التحرير عمله، إذ انه لم يتم اختياره عندما عين رئيس تحرير جديد للمجلة بالرغم من مؤهلاته. وهناك العديد من الجمعيات والمؤسسات في أوروبا وأمريكا ممن تبدي تعاطفا مع القضايا العربية العادلة والتي تنشر على صفحاتها الالكترونية أسماء شركات أو بضائع تنتج أو تباع من جهات معادية لشعوبنا ولقضيتنا لكي يتمكن المواطن من مقاطعتها ان شاء. وفي بريطانيا بالذات تكتب على معظم البضائع مما فيها الاشياء الغذائية ومن ضمنها الفاكهة والخضراوات منشأ تلك السلعة وبإمكان أي شخص يتمكن فقط من القراءة بمعرفة أصلها ومقاطعة شرائها ان شاء. إنها السلاح الأبيض الفتاك الذي لا يعرف سره إلا الفرد نفسه، وإذا استخدم بانتظام يساوي اكبر تظاهرة أو نار أي بندقية.

* طبيب عراقي ومؤسس جمعية الأطباء لحقوق الإنسان في بريطانيا