«الإعلاموقراطية» في عصر حضارة الصورة

TT

دعيت، ذات يوم، من قبل منظمة اليونسكو، للمشاركة في ندوة حول «الاعلام وتأثيره في المجتمعات»، وكان بين المشاركين عدد من ابرز علماء وخبراء الاعلام، اكتفي بذكر ماك لوهان من بينهم. وبقيت في ذاكرتي من تلك الندوة، ما جاء في مداخلة رئيس دائرة الأبحاث في التلفزيون البريطاني (هولاران) عن تأثير التغطية الاعلامية، ولا سيما المصورة، على نفسية الذين تغطي نشاطهم. ومما قاله: لقد لاحظنا انه في كل مرة كانت فيها كاميرات التلفزيون حاضرة لتغطية تظاهرة او تجمع طلابي، كان العنف يندلع.. وبالعكس، فإن العنف يقل أو يتلاشى، عندما لا يكون هناك كاميرات ومصورون يغطون التظاهرة .

كان هذا منذ اكثر من ثلاثين سنة. ولم تكن محطات التلفزيون الفضائية على ما هي عليه، اليوم، من امتداد بث الى كل انحاء العالم ومن مراسلين ومصورين منتشرين في كل العواصم. ومن هنا السؤال: ما هو الدور الفعلي او الحقيقي الذي تلعبه وسائل الاعلام الحديثة، ولا سيما محطات التلفزيون الفضائية في تحريك الاحداث واستثارتها، وفي التلاعب بالعلاقات بين الدول؟ هل هو دور ايجابي ام دور سلبي؟ هل هو دور مكمل للديموقراطية ام نوع من عمليات «غسل الأدمغة»؟ وما هي العوامل او الدوافع او الاهداف التي تتحكم بـ«سياسة» التلفزيونات وبرامجها، ولا سيما نشرات الاخبار والندوات؟ هل امرها متروك للعاملين في المحطة ومحضري النشرات والبرامج؟ ام هو مرهون بتوجيه «اصحاب» المحطة، الذين يملكون اسهمها، ويعينون مديريها، وبالتالي يحددون اتجاهاتها السياسية؟ ام هي المصلحة الاعلانية البحتة، المرتبطة باجتذاب اكبر عدد من المشاهدين؟ واي «سلطة «تمارسها وسائل الاعلام الحديثة الى جانب السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية اليوم؟

لقد لعبت اذاعات، مثل «البي.بي.سي»، وراديو «مونتي كارلو»، و«الشرق الأدنى»، لسنوات خلت، دورا اخباريا وتوجيهيا كبيرا، في العالم العربي. لأن المستمعين العرب كانوا يثقون بأخبارها، اكثر مما يثقون بنشرات اخبار اذاعاتهم الرسمية. كما لعبت قناة «السي.ان.ان»، دورا اعلاميا عالميا، في التسعينات، ـ حتى قيل ان في مكاتب كل رؤساء الدول شاشة تلفزيون مفتوحة بشكل دائم على هذه القناة.

كان ذلك امرا طبيعيا بالنسبة للدول الكبرى أو المجتمعات الاقتصادية والثقافية المتقدمة، التي تقف وراء هذه الوسائل الاعلامية العالمية. ولكن ظاهرات اعلامية برزت مؤخرا، دلت على ان «دولا صغيرة الحجم» يمكنها انشاء محطة تلفزيونية فضائية عالمية البث قادرة على توجيه الاخبار وتغطية الأحداث على النحو الذي يلائم سياستها «او يخدم «أغراضها» الحقيقية.

ولقد دخل الانترنت، في الآونة الاخيرة، كوسيلة اعلامية مميزة، تتجاوز الوسائل السمعية ـ البصرية الاخرى، في مداها، من حيث انها تقفز فوق كل القوانين التي قيدت او ضبطت حرية الوسائل الاخرى. كما دخل الهاتف الجوال الموصول بالانترنت ساحة الاعلام والتواصل.. والحبل على الجرار.

ان دور وحجم وتأثير وسائل الاعلام الحديثة، لا سيما العالمية البث، على تفكيرالشعوب ومشاعرها، وعلى الحياة السياسية فيها، تعدى الاعلام والتنوير الى التدخل المباشر في السياسة، بعد ان اصبحنا نعيش في عصر حضارة الصورة والكلمة. وهو دور اكبر من دور «السلطة الرابعة»، كما وصفت يوما ـ (مع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية). فهل دخلنا في عصر «الاعلاموقراطية»؟ أو بتعبير آخر: العصر الذي تتحكم فيه وسائل الاعلام بالسلطات الاخرى، وتلعب دورا اكبر، من القوى الاقتصادية او السياسية او العسكرية، في تقرير مصائر الشعوب؟

ان العصر الذي كانت فيه الدولة والحزب الحاكم ينفرد بالإعلام، اصبح وراءنا. ولكن اطلاق الحرية الاعلامية واخضاعها فقط للمنافسة، ادخل العالم في عصر جديد، يحار الانسان في وصفه، فكيف بالتحكم فيه سياسيا وديموقراطيا، على الاسس والقواعد والمعايير المعتمدة في القرنين الاخيرين، على الاقل. ففي دول عديدة، لوحظ استحواذ كبار الاغنياء والشركات التجارية الكبرى على اكثرية الاسهم في الصحف والاذاعات والتلفزيونات. وفي الاتحاد الروسي، تشكى اكثر من سياسي، من «سيطرة اقلية يهودية على وسائل الاعلام في موسكو».

وفي بلد صغير كلبنان، بات لكل طائفة وحزب تلفزيونه ووسائل اعلامه. وهذه التلفزيونات تلعب دورا مهما في «تمزيق» الوحدة الوطنية اللبنانية. وان كانت تدعي العكس. اما عدد الاقنية الفضائية «الايرانية الملكية او التمويل» فإنها تتجاوز العشرين. فما لا يمكن للصواريخ الايرانية ان تطاله، يسهل على الفضائيات بلوغه.

من هنا يمكن الحديث عن «الاعلاموقراطية»، كسلطة، تفوق السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية قوة، ويتعدى تأثيرها حجم البلد او الجهة التابعة لها. واذا كانت البشرية دخلت مرحلة «ما بعد نهاية التاريخ«، أو ما اتفق على تسميته بعصر العولمة، فإن اهم واخطر معطيات هذا العصر، ليس سقوط الحدود بين الدول، ولا ترابط مصائر الشعوب، واقتصادها وسلامتها، بل هذه «الشبكة الاعلامية» العالمية المدى، التي باتت تتحكم في الإنسان وبالمجتمعات والدول، بل وتتلاعب بها.

ان الامم المتحدة والحكومات في العالم باتت مدركة لتضخم حجم وسائل الاعلام الحديثة، التي لم تعد القوانين الوطنية او الاتفاقات الدولية قادرة على الوقوف في وجهها او حتى ضبطها او مراقبتها. ولا سيما وان منظمات الدفاع عن حقوق الانسان والحريات العامة في العالم، تقف بقوة الى جانب الحرية الاعلامية وتعارض كل تقييد او كبت لها. ومن نافل القول ان هذه الحرية الاعلامية العالمية المدى، والمؤثرة في الرأي العام، لها مفاعيل ايجابية، اذ تتيح للدول والشعوب الصغيرة، ان تدافع عن حقوقها امام الدول الكبرى، وللقضايا العادلة ان توصل صوتها الى العالم، ولكن لها مفاعيل سلبية او مشوشة او هدامة، من حيث انها تتيح لجماعة ارهابية او حركات متطرفة هدامة، فرصا اعلامية لا يؤهلها لها حجمها السياسي او شعبيتها.

عندما يتأمل الانسان في ما قد يستطيع موظف في احد المصارف، تحقيقه من ارباح ـ أو تكبيده من خسائر ـ تصل الى عشرات المليارات في يوم واحد، بمجرد ضغطه على ازرار كومبيوتره. او في مئات المليارات التي تتنقل في الجو بين بورصات العالم. بيعا وشراء لأسهم، او لعقود مؤجلة. وكل ذلك بفضل وسائل التواصل والإعلام الحديثة، تحت سقف العولمة والليبيرالية الاقتصادية، ويعطف على ذلك تلك الشبكة العالمية من الفضائيات، لا يسعه سوى الشعور بأن البشرية دخلت عصرا جديدا، هو عصر «الاعلاموقراطية» أو بتعبير آخر: عصر تحكم وسائل الاعلام، ومن يمتلكها ويوجهها، بعقول وقلوب البشر، وبمصائر الشعوب.