متى يشعر العرب بـ«الجمرة» التي تحرق اللبنانيين؟

TT

يقول المثل الشعبي «الجمرة لا تحرق إلا في موضعها»، ووراء هذا المثل وغيره حِكَم وتجارب توارثتها الأجيال عبر قرون، كان فيها الإنسان يصغي إلى كبار عشيرته ويحترمهم، ويفهم مبدأ الثواب والعقاب، وإذا شذ صار منبوذاً يعيش على هامش المجتمع.

ولكن الأيام تغيّرت، واكتسب الأفراد والجماعات، ولاسيما النخب السياسية، عادات جديدة منها ما هو جيد ومنها ما هو سيئ.

فقد كانت لـ«كلمة الشرف» والعهود والمواثيق في الماضي قيمة كبيرة عند خيار القوم وكبارهم، وكانت شعرة واحدة يسحبها الشيخ أو الزعيم من شاربه أو لحيته دليلا دامغا على الالتزام ولو تحت حد السيف، كما يقال. لكننا اليوم نعيش مفاهيم سلوكية مختلفة، وبالذات، في ساحات السياسة. إذ لم يعد لـ«كلمة الشرف» مكان في عالم «الواقعية السياسية»، وما عاد للعهود بل حتى المواثيق المكتوبة قيمة الحبر المستخدم لتوقيعها.

مرت ببالي هذه الشطحة مع الخيال، وسط الأخذ والرد حول ما إذا كان على لبنان تلبية الدعوة للقمة العربية التي تلقاها وزير خارجيته «المستقيل» فوزي صلّوخ من ممثل عن وزارة الخارجية السورية.

ليس لي طبعاً أن أفتي في مسألة بمثل هذه الحساسية، فلا صفة رسمية لي لأفعل، ولا أنا في موقع الحدث، غير أن اللافت سلسلة من الأمور الممهّدة لا تخلو من غرابة.

فعندما كثر «القال والقيل» عن موعد توجيه دمشق الدعوة إلى لبنان للمشاركة في القمة، وخاصةً بعدما تسلم الأخوة الأبعدون جغرافياً دعواتهم، كان الجواب الأطرف هو أن «الدعوة ستوجّه في الوقت المناسب»!

وعندما تساءل بعض سيئي النية عمّن ترغب دمشق في أن يمثّل لبنان طالما أنه حتى سكان كوكب عطارد ـ إن وُجدوا ـ يعرفون أن دمشق لا تعترف بشرعية الحكومة التي يترأسها الرئيس فؤاد السنيورة وتعتبرها وأركانها «منتجاً إسرائيلياً»، وسبق لها وصف رئيسها بـ«عبد مأمور لعبد مأمور»،... جاء جواب لا يقل طرافة وظرفاً هو «متروكة للبنانيين حرية اختيار مَن يمثلهم»!!

بالنسبة لموضوع «الوقت المناسب»، اعتقد أن فترة غياب رئيس الحكومة (أو مجلس الوزراء) المنوطة بها «مجتمعةً» بحكم الدستور اللبناني مهام رئيس الجمهورية، عن لبنان، لحضور القمة الإسلامية في داكار... لا تشكل «وقتاً مناسباً» في أي قاموس، أللهم إلا إذا كان المقصود «الوقت المناسب لدمشق» لكي تمضي قدماً في لعبة إرباك الساحة اللبنانية وإثارة مزيد من الحساسيات المذهبية والسياسية.

واستطراداً، إذا تناسينا «الوقت المناسب».. ماذا عن «الشكل المناسب»؟ فالنظام في سورية نظام رئاسي وليس حكومياً، بمعنى أن رئيس السلطة التنفيذية الفعلية هو رئيس الجمهورية، فضلا عن كونه أساساً رئيس الدولة ورمز وحدتها الوطنية. وبالتالي، فالدعوات إلى «مؤتمر قمة» عربي يحضره الملوك ورؤساء الدول يفترض أن تصدر عن رئيس الجمهورية وليس رئيس الوزراء. مع هذا اختارت دمشق تجاهل نصوص الدستور اللبناني والانتقاص حتى من قيمة مَن اتصلت به من اللبنانيين، بتحميلها رسالة رئيس وزرائها لمساعد وزير الخارجية إلى وزير خارجية (ولو كان «مستقيلا» ... بعض الأحيان).

هنا نصل إلى من ترغب دمشق حقاً في أن يمثل لبنان. وهذه مسألة مهمة جداً في ضوء حقيقة الدور السوري الناشط في تعطيل انتخاب رئيس جمهورية للبنان منذ الخريف الفائت. والدور الأنشط في وضع الشروط التفصيلية شبه التعجيزية لشكل أي حكومة لبنانية عتيدة قد تقبل بها دمشق ... وأي قانون انتخابي ينال رضاها وينال موافقة حلفائها.

بحكم الممارسات المألوفة والمواقف المعلنة، سواء عبر الجهات الرسمية السورية أو من يمثلها داخل لبنان، غدا من الواضح أن دمشق تريد اصطياد عدة عصافير بحجر واحد، منها:

1- إحراج الحكومة اللبنانية أمام قاعدتها الشعبية، وذرّ الفرقة بين مكونات «تحالف 14 آذار» الذي يدعمها. ذلك أن قبولها الدعوة سيضعف حجج «14 آذار» الذي يتّهم دمشق بالتورط في الاغتيالات ومحاولات الاغتيال السياسية منذ خريف 2004، ويهز تضامنه.

2- إرباك الساحة الداخلية عبر زيادة تشنّج الخطاب الطائفي، وهنا يأتي الدور الموكل لتيار النائب ميشال عون. فإذا قبل الرئيس السنيورة حضور القمة ووافقه حلفاؤه على ذلك سيهبّ عون وجماعته مستنكرين افتئات رئيس حكومة مسلم على أعلى موقع مسيحي في الدولة... في ظل تواطؤ مسيحيي «14 آذار».

3- إحراج الحكومة اللبنانية أمام العالم العربي؛ ففي حال وافقت الحكومة اللبنانية على الحضور فإنها ستخذل القوى العربية الداعمة لها وتضعف موقفها، وإذا امتنعت ستتعرّض للوم عدد من الدول العربية التي لم تتفهّم حتى الساعة حقيقة الموقف الرسمي السوري من أزمة الحكم اللبنانية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تفاقم حالة الانقسام العربي التي تستفيد منها دمشق راهناً.

4- أساساً دمشق لم تعترف ولا تعترف ولن تعترف بلبنان «دولة مستقلة ذات سيادة». وبالتالي، فتغيبه عن القمة مريح لسببين: الأول عقائدي صرف يتأكد معه أنه بلد غير موجود، والثاني استنسابي سياسي يستند الى منطق أن لا قيامة للبنان من دون إشراف سوري مباشر على تسيير أموره الداخلية.

5- إثارة قوى داخل المعارضة ترتدي مسوح «العروبة» تصرّ على أنه لا يجوز تغييب لبنان عن «قمة عربية» ولو تمثّل بوجوه من المعارضة (الرئيس نبيه بري أو الوزير «المستقيل» صلوخ أو حتى النائب عون). وفي هذا، إذا حصل، ذروة التلاعب بهشاشة الوضع الداخلي المتفجّر في لبنان.

عودة إلى «الجمرة» و«موضعها»، الذي هو لبنان المحترق، أقول إن على العرب أن يدركوا قبل فوات الأوان أنه مهما كانت الدبلوماسية إيجابية فلا قيمة لها من دون صلابة والتزام بحد أدنى من التنازلات. وفي مدارس العلوم السياسية تعلّمنا وتعلّم غيرنا الحكمة العمليّة القائلة «تكلّم بنعومة... واحمل عصا غليظة»، فمن دون العصا الغليظة لا تفضي النعومة إلى نتيجة.

وطالما واصلنا، كعرب، هروبنا إلى الأمام... فإننا سنظل عرضة للابتزاز والضغوط من هنا وهناك.