خيبة

TT

احتفلت الأحزاب «الناصرية» في العالم العربي مؤخرا بالذكرى الخمسين لتأسيس الوحدة المصرية السورية، وقيام ما عرف باسم «الجمهورية العربية المتحدة». وقد سوق هذا المشروع (وباقتدار كبير وقتها) بأنه حلم الجماهير ورغبتها وأمل الأمة وغايتها، ولكن الحقيقة كما يتضح ومع مرور الأيام كانت غير ذلك. ففي إحدى ليالي 1957 بالقاهرة تلقى عبد الرحمن العظم سفير سورية مكالمة من سفير دولة أخرى ليقابله فورا وفعل، وسأله «هل هناك إعلان قريب عن وحدة بين مصر وسورية؟» فأجاب: «لا علم لي بذلك» وعلق السفير: «لدي معلومات مؤكدة أن هناك إعلانا وشيكا عن الوحدة بين البلدين»، وعاد عبد الرحمن العظم الى منزله ليتلقى تلفونا متأخرا في منزله من تشريفات رئاسة الجمهورية بمصر لتخبره أن الرئيس السوري والوفد المرافق سيصلون غدا صباحا. وفي اليوم التالي ذهب السفير السوري لمطار القاهرة ليكون من ضمن مستقبلي شكري القوتلي رئيس الجمهورية ومعه خالد العظم وصبري العسلي وهما من كبار المسؤولين التنفيذيين بالحكومة السورية وقتها. وركب عبد الرحمن العظم السيارة برفقة خالد العظم وسأله ما هي أسباب هذه الزيارة المفاجأة: فأجابه «لقد سحبنا سحبا من قبل عبد الحميد السراج، وطلب منا المغادرة فورا للقاهرة لإعلان الوحدة مع مصر» ومن المعروف أن الضابط العسكري عبد الحميد السراج كان رجل مصر الأول في سورية وقناة اتصاله فورية بعبد الناصر وبعبد الحكيم عامر. وتم الاعلان عن الوحدة، ووضع عبد الحكيم عامر مسؤولا عن الشطر الشمالي (وهو الاسم الذي أطلق على سورية وقتها) وما كان منه الا ان يلغي وبعبثية واستهتار شديدين الشخصيات والتاريخ السوري برمته، متناسيا أن للسوريين عزة وكرامة ولن يقبلوا بذلك، وبالفعل مرت الأيام والهيمنة المصرية على «الوحدة»، وعناصر الفساد والتسلط باتت السمة الأساسية للحقبة، وانتقلت الآفات المتعلقة بالمخابرات وسلب الحريات والاستيلاء على الملكيات عنوة بحجة التأميم والإصلاح الزراعي الى سورية محدثة دمارا هائلا في كافة المجالات. ولم يستطع السوريون تحمل ذلك وقاوموا حتى كتب لهم الانفصال، ولم يستفد عبد الناصر من التجربة وأبقى على عبد الحكيم عامر بل منحه صلاحيات أكبر لكي يرضيه عن فقدان سورية، وتسبب نفس النهج في ضياع سيناء والجولان والضفة الغربية وغزة والقدس نفسها.

إنه نهج العبث بالأجيال ومستقبلها ووضع المسؤوليات لأهل الثقة والمحسوبية وليس لأهل الكفاءة، ومع ذلك للآن ولليوم تجد من يقول ان الذنب ليس ذنب عبد الناصر ولكن ذنب من كانوا حوله، وكأن من حوله عينوا من قبل السفير البنغلاديشي بزائير!! منطق أعوج وغريب! ولذلك يبقى المشهد حزينا ومضحكا باستمرار المظاهرات في لبنان وفلسطين الحاملة لصور عبد الناصر تهتف به وبشعاراته وذلك في حالة انكار وتوهان لا مثيل لها.

حاول عبد الناصر وقتها أن يوهم نفسه والناس بأنه «صلاح الدين» عصره وقام بتكليف الدولة بإنتاج فيلم الناصر صلاح الدين وتقديمه على أنه بطل «عربي» بالرغم أنه كان كرديا ولكن «السوق كان عاوز كده» وبالتالي كان لا بد من تقديم هكذا منتجات لإقناع الناس والجمهور، وكيف لا؟ فصلاح الدين وحد مصر وسورية وحرر القدس، ولكن «ايش جاب لجاب» فصلاح الدين وحدهما وحررهما وعبد الناصر فصلهما وطيرها. إنه التاريخ الذي يزور ويشوه لمقاصد وغايات في نفوس الكثيرين. وما علينا سوى الانتظار حتى نرى الحقيقة في مسلسلات تلفزيونية قريبة على أقل تقدير. وبعد هذه الخيبة لا يزال هناك من يجرؤ على الاحتفال بالوحدة؟ إذن لن يكون غريبا أن نرى الاحتفال بأم المعارك قريبا أيضا.