القرية التي غيرت العراق

TT

قبل عشرين عاما تأقلم العالم مع الأرقام الضخمة للقتلى، التي تجاوزت مليوناً في حرب العراق ـ ايران، حتى ذاعت قصة بلدة في شمال كردستان أبيد معظم اهلها. كانت الكابوس الذي يرتجف العالم خشية ان يستيقظ عليه في صباح أي يوم، كابوس الاسلحة الكيماوية. أفني أهلها، مثل الحشرات، بمبيدات كيماوية ضمن حملة قامت بها القوات العراقية ضد المتمردين الأكراد، هاجموا خلالها عددا من المدن والقرى الكردية البعيدة عن عيون الإعلام والاهتمام السياسي الدولي. لكن الصدمة كانت مروعة عندما ظهرت صور الرجال والنساء والاطفال ممددين في الطرقات وأمام بيوتهم في حالة هروب جماعية. مات أكثر من أربعة آلاف انسان مع آلاف الحيوانات مخنوقين بغاز الخردل.

نجح النظام كثيرا في التستر على جريمته أمام الرأي العام في المنطقة العربية التي اختلق لها مبررات مختلفة، في البداية أنكرها، لكنه اعترف وكابر مصرا على انها عملية عسكرية ضد الإرهابيين، وفي النهاية أعاد إنكارها وحمل الايرانيين مسؤوليتها.

هذه قصة حلبجة باختصار شديد، الجريمة التي دقت المسمار الأول في نعش نظام صدام فانتهى بنفس البشاعة التي أذاق فيها ضحاياه. صارت البلدة المنكوبة رمزا عالميا ضد التسلط، وضد التسلح بأسلحة صنعت لقتل المدنيين تحديدا لأن الجنود يتحصنون بالأقنعة ضدها. والجريمة قادت الى جرائم أكبر. فقد تجرأ صدام واحتل الكويت بعدها بعامين، وارتكبت قواته جرائم مماثلة بحق المدنيين هناك، ليؤكد أن النظام الحديدي حفر قبره بيديه.

حلبجة ليست لغزا حتى نضيع جهدنا في البحث عن إجابته، إلا من سؤال واحد. نسأل انفسنا جميعا، لماذا صار سهلا على زعماء، كصدام، ان يبيدوا آلاف الناس من دون ان يسمعوا استنكارات حقيقية ضدهم؟ اين مجتمع المثقفين والحقوقيين والمؤمنين بأبسط مبادئ الحقوق، حق الحياة؟

حلبجة الى اليوم هي لطخة في جبين العرب لأنهم لم يقوموا بأدنى واجباتهم: استنكار فعلها بدل إنكار وقوعها. اعرف جيدا انها عندما وقعت، والى سنوات عديدة لاحقة، لم يعرف غالبية العرب بما حدث في حلبجة، وكانت الماكينة الدعائية في انحاء المنطقة والعالم التي تدار من بغداد مسحت آثار الجريمة، وحاولت التملص منها. ولو سألت الغالبية الساحقة من العرب لقالوا صادقين انهم لم يسمعوا بها، ومن سمع عنها لم يعرف دور نظام صدام فيها. وهذا يبرر الصمت الرهيب امام تلك المجزرة البشعة لكنه لا يبرر الصمت الطويل الذي استمر حتى بعد ان عرف الجميع بجرائم النظام في الكويت والجنوب العراقي وغيره. سكوت المثقفين عن جريمة حلبجة شجع على ارتكاب المزيد من الجرائم في العراق وخارجه، فاستسهلت الأنظمة المتسلطة قتل الناس، وأعطت انظمة اخرى مبررات لأفعالها، كما فعلت اسرائيل بدعوى أن جرائمها كانت أقل دموية وعددا.

علينا جميعا ان ندرك ان إغماض العين عن جرائم حملة الرايات القومية او الوطنية او الدينية تشرع للجريمة ضدنا جميعا.

[email protected]