الجسر اللعين

TT

ليس المهم كيف يبدأ البشر ولا اين بل كيف ينتهون واين. لقد بدأ ريتشارد نيكسون ابن بقال واصبح رئيساً لاميركا، لكنه انتهى كاذباً ومعزولاً ووحيداً. وبدأ غريمه نيكيتا خروشوف راعياً للخنازير وعامل منجم وأصبح زعيماً للاتحاد السوفياتي، لكن جنون العظمة افقده صوابه وافقده موقفه ومكانته. معظم الناس يقطعون المسيرة من العدم الى الانجاز السياسي او الاقتصادي او الفكري. لكن الامتحان الكبير هو امتحان البقاء. ان يبدأ المرءُ كما بدأ غاندي او نلسون مانديللا، وان ينتهي مثل غاندي او مانديللا.

اعقد الرحلات في الحياة هي رحلة الصعود. اذا لم يعرف الانسان متى يتوقف كان السقوط مدوياً. لم يكتفِ صدام حسين بذروة الحلم، اي رئاسة العراق، بل اراد ايضاً حكم العالم العربي. ولم يكتفِ بذروة القيادة المدنية بل اراد ان يكون قائد القادة العسكريين. وكانت النهاية عند قاض يدعى منير حداد. وعندما اقرأ في سِيَر البشر، وهي اهم القراءات، اجد دائماً ان ثمة رجالاً يعبرون الجسر اللعين من العقل الى الجنون. ولا اعتقد ان في القادة والابطال والمحررين سيرة شبيهة بحياة كوامي نكروما. كان يافعاً عندما رسم لنفسه الهدف الوحيد في الحياة، تحرير غانا. ومن اجل ذلك كان عليه، اولا، ان يصنع شيئاً من نفسه. ادرك ان ذلك غير ممكن في بلده المستعمر ولا بد من الدراسة في اميركا. مارس التعليم 5 سنوات في آكرا، يوفر كل قرش ويجوع احياناً، لكي يجمع ثمن التذكرة. في السادسة والعشرين دخل جامعة لنكولن وراح يعمل اولاً، كحمال في ميناء، من منتصف الليل الى الثامنة صباحاً. ثم عمل في مصنع للصابون. ثم انتقل الى هارلم «حيث كنت اشتري السمك بالجملة وأحاول بيعه بالمفرق». ثم خادماً على سفينة سياحية. ومن اجل ان يوفر كان ينام في الحدائق ومحطات القطار.ثم اصبح استاذاً للفلسفة في جامعة لنكولن.

عاد الى آكرا العام 1947 وبدأ نضاله ضد الاستعمار البريطاني. وبعد عقد غانا تتحرر. اول بلد يستقل في افريقيا السمراء. لكن نكروما لا يريد تحرير «ساحل الذهب» وحده بل افريقيا برمتها. ولم يعد اسمه فقط «كوامي» كما تحب الجماهير ان تناديه، بدأ يجمع ويتبنى الالقاب ببساطة معيبة: «العظيم»، «الرجل الذي لا ترد كلمته»، «الشجاع»، «اقوى الاقوياء»، «مطفئ الحرائق»، «الرجل صاحب الكلمة النهائية»، «الجوهرة الثمينة في تاج التحرر».

لو اصغى قليلاً الى اصوات الناس والفقراء في آكرا، لأدرك انهم يريدون شيئاً واحداً: السترة واللقمة. لعين هو ذلك الجسر. بين العظمة وبين جنون العظمة. واللعنة على المنافقين.