فن المغالطة في تضليل العرب

TT

يصف أبو تمام زمانه بـ«الزمن الوغد». نحن المعاصرين أكثر تسامحا مع زماننا. هو عندنا «الزمن الرديء». بعض الناس سيئ الظن بالناس وليس بالزمن: «نعيب زماننا والعيب فينا/ وما لزماننا عيب سوانا».

لست من دعاة الشكوى من الزمن. ولست على اعتقادٍ بأن الناس كانوا أسوأ مما أصبحوا. كل ما حدث أننا أضفينا بعض «الرتوش» على أنفسنا، لنبدو أكثر صدقا وبراءة.

هذه الإضافة أسميها المغالطة. في السياسة، المغالطة فن كلامي عريق في قدمه. منذ أن تعلم الانسان حكم الانسان، لجأ الى المغالطة. الحقيقة مرة. كانت المغالطة نوعا من مداهنة الناس لهدهدة غضبهم أو مداراة خيبتهم. المغالطة في عصرنا، عصر الإعلام الجماهيري، هي خطر كبير على الحقيقة، وأمن الدولة، وسلام المجتمع، بل هي خطر على الانسانية جمعاء.

يقول كونفوشيوس: «إذا ما استخدمنا الكلمات خطأ، فلن نستطيع اشتقاق النتائج الصحيحة». عثر بوش في العراق على علي الكيماوي. عندما لم يعثر على حقيبة صدام النووية والجرثومية، راح يغالط العالم كله بالادعاء انه غزا العراق لنشر الديمقراطية.

اليوم، نحن أمام مغالطة خطيرة يمارسها مسؤول سياسي رفيع. خالد مشعل ليس المرجع السياسي لـ«حماس» فحسب، انما هو أيضا ظاهرة جديدة نسبيا تجسد المرجعية السياسية للمؤسسة «الجهادية» الفلسطينية التي ترعاها وتمولها وتوجهها إيران وسورية. اختار هنا مقتطفات من تصريحات لمشعل تنطوي على إيغال في المغالطة.

يلح الرجل الآمن في مكمنه بدمشق على «جهاديي» غزة «لإطلاق الصواريخ»، لأنه لم يعد امام المقاومة سوى صاروخ التنك. ثم يستدرك «ان العدوان الاسرائيلي على غزة سابق لاطلاق الصواريخ». المغالطة هنا صريحة. سبق ان قلت وقال غيري أيضا ان انسحاب اسرائيل من غزة (2005) كان فرصة سانحة للبدء في اعمارها، وتحويلها الى لؤلؤة متوسطية مزدهرة. لكن ضعف ثقافة التنمية لدى الجهاديين جعلهم يختارون الطريق الأسهل عليهم. اختاروا صاروخ التنك لتحرير فلسطين من النهر الى البحر، غير آبهين بآلام شعب غزة المنهك والجائع.

في عدوان «الشتاء الحار» وحده، قتلت اسرائيل 120 غزِّيا في مقابل جنديين ومدني واحد ألا تكفي المواجهة غير المتكافئة لكشف المغالطة؟

أبدا، مشعل يواصل المغالطة محملا عباس والنظام العربي مسؤولية «الصمت» عن «إبادة» الفلسطينيين! ويعتبر العرب شركاء مع اسرائيل في العدوان! يقول النبي العربي الكريم: «إن لكل دين خُلُقا، وخُلُق الاسلام الحياء». لكن ليس في المنطق الجهادي المغالط أي متسع للخجل، مشعل يريد خطف القرار السياسي العربي، وتجييره لصالح النظامين الايراني والسوري في تسعيرهما مقاومة «جهادية» غير ناجحة باتت ترفضها غالبية الفلسطينيين في الضفة وغزة.

الاختراق الايراني يواصل مداه المتدخل في العالم العربي. الهدف تحييد النظام العربي لخدمة مقاومة «جهادية» تمارسها ميليشيات متناحرة من جهة، ومخترقة اسرائيليا من جهة. حماس حيَّدت فتح في غزة، متهمة أجهزتها بالتجسس عليها لصالح اسرائيل هل يشرح لنا مشعل، بلا مغالطة، لماذا تتمكن الطلعات الاسرائيلية الجوية والبرية من صيد «القادة الجهاديين» وتحويل سياراتهم إلى توابيت للموت، بهذه السهولة اليومية؟ ألا يعني ان تنظيمات التحرير الجهادية مخترقة هي أيضاً اسرائيليا؟

في الحديث النبوي حكمة بالغة في تغليب المنطق العقلاني على غوغائية المغالطة: «لكل شيء دعامة، ودعامة المؤمن عقله، فبقدر عقله تكون عبادته». في لحية مشعل ما يفترض حسن الظن بإيمانه. لكن ماذا عن مغالطاته؟ أقارن هنا بين سعي حماس لهدنة طويلة الأمد مع اسرائيل، وسعي عباس إلى حل تفاوضي شامل ونهائي.

هدنة حماس المنشودة من شأنها لجم المقاومة، وإطلاق العنان لاسرائيل في التوسع في استيطان الضفة، واعتقالها وأسرها بالجدران وحواجز الحصار. الهدنة لا تضمن الأمان للفلسطينيين من الغارات الانتقامية الاسرائيلية، باعتراف مشعل نفسه، سواء نجحت مفاوضات عباس مع اسرائيل أو لم تنجح، فهي تهدف أساسا إلى إقامة دولة فلسطينية معترف بها دوليا. فارق كبير بين الدولة والهدنة. الدولة كيان مستقل له حدود وسيادة، وأرض غير محتلة أو مستباحة. الحل الشامل والنهائي يوفر تسويات لمشاكل ليست باستطاعة هدنة مهزوزة حلها.

«وإنما الناس بالملوك وما تفلح عُرْبُ ملوكها عَجَمُ» فن المغالطة أجبر المسكين عباس على تعليق المفاوضات مؤقتا مع اسرائيل، في حين مضت حماس، على الرغم من نفيها، في مفاوضات الهدنة! عباس هو جزء من النظام العربي الذي يريد مشعل شله لصالح «الآيات» ملوك العجم والعرب في طهران.

هل قصر النظام العربي مع مشعل وحماس؟ ما زال النظام العربي كريما مع حماس، وربما أكثر سخاء من إيران. مشعل نفسه يلقى تكريماً وترحيبا كلما زار السعودية ومصر ودول الخليج. النظام العربي هو الذي أنقذ مشعل من موت محتم. أجبر العاهل الأردني الراحل الحسين اسرائيل على إتاحة المصل المضاد للسم الكيماوي الذي حقن عملاء اسرائيل به مشعل في غفلة منه. هذا هو النظام العربي الذي يتهمه مشعل بأنه «شريك» لاسرائيل في «مؤامرة الصمت».

فن المغالطة يحجب الحقيقة. يقلب الوقائع. يضلل الرأي العام. يشيع بديهيات ساذجة تنطلي على أنصاف الأميين وأشباه المتعلمين. يلخص ملك الأردن عبد الله الثاني نتائج المغالطات التي باتت في صميم ممارسات أكثر من نظام وتنظيم وحزب. يقول في مطالعة له في جامعة برنستون الأميركية ان التطرف يجعل الخطط السياسية والاجتماعية في المنطقة (العربية) في قبضة آيديولوجيات راديكالية متطرفة.

كيف يمكن مواجهة فن المغالطة السياسية؟ في زمن العواطف الجريحة المستثارة بفن المغالطة، يضطر النظام العربي إلى اتخاذ موقف الدفاع والمسايرة، أو حتى السكوت عن غوغائية المغالطة. تغدو مواجهة الرأي العام بالمنطق والحقائق أمرا صعباً وخطيراً. قوى المغالطة تتوجه إلى اتهام النظام بالأمركة والشراكة مع اسرائيل. اسرائيل ذاتها تنافس «الجهاديين» في المغالطة. تدعي انها تمارس حق الدفاع المشروع عن السيادة. فتبالغ في همجية الثأر والانتقام.

مغالطة في مقابل مغالطة. فورا، تُسَيَّرُ مواكب الموت المكشوفة. كأن ليس للموت وللشهادة حرمة. يعلو عويل وصراخ «الندّابات». ينفجر إعلام طهران ودمشق وحزب الله وحماس بالمغالطات. ينطلق الرصاص الجنائزي ليصمَّ آذان الموتى والأحياء. تلتقط عدسات التلفزيون المشهد المؤثر. يصمت النظام العربي. يساير. يغدو أسير المغالطة الخطرة.

والحل؟ الحل ان يسقط النظام العربي القناع عن فن المغالطة. أن يواجه الاختراق والحملات بصراحة المكاشفة النزيهة، بالشرح والتفسير للناس.

الدولة موقف وسياسة. النظام العربي لا يستطيع مسايرة صاروخ التنك، فيدخل في مواجهة غير متكافئة لا تسمح فيها الظروف الدولية التي تعتبر اسرائيل في موقف الدفاع عن النفس. إذا كان التنظيم مستعدا للتضحية بحياة الضعفاء الذين يتحكم بهم، فالنظام مسؤول عن حياة واستقرار عشرات الملايين الذين يحميهم ليس فقط من همجية اسرائيل، وانما أيضاً من هؤلاء الذين يسترخصون دماء العرب. يضحون بهم دفاعاً عن مصالحهم، مصالح مَنْ؟ مصالح أولئك الذين يقول فيهم الشاعر العربي متحسرا: «ومن يكن سائلا عن أصل دينِهُمُ فإن دينَهُمُ أن تُقتل العُرْبُ».