من يخاف الحرية؟

TT

حينما يؤكد الملك عبد الله بن عبد العزيز على قيمة الحرية ومركزية الاهتمام بها، في خطابه الملكي الأخير أمام أعضاء مجلس الشورى، فإنه يضع إصبعه على أمر بالغ الأهمية .

في الخطاب، غير التقليدي، الذي تلاه الملك قال: «بالحرية نصون حريتنا ونحدد معالمها ونقول للعالم هذه قيمنا وتلك مكارم أخلاقنا».

وتحدث عن أنه يرحب بالنقد، وأنه يمارسه على ذاته إلى درجة القسوة، وانه يرحب بها ويطلبها.. كل هذه المعاني هي دلالة عافية سياسية لا مرض وضعف. الذي يخاف من النقد ويخشاه هو الضعيف الذي يخفي العيوب، لكن الواثق، الصادق، الذي يهمه بالفعل أن يغير ويصلح، ويشغل نفسه هذا الهم، ليس على سبيل الادعاء والتمثيل، بل هو حقا يشعر بهذه الرغبة العميقة للإصلاح، لا يضيق ذرعا بمن ينقد ويكاشف، ما دام نقده من أجل الإصلاح وطلب الأفضل.

درج كثيرون في السعودية، وكثير من البلاد العربية، على تقديس الحاكم، والبصم على كل شيء يصدر من السلطة، والتأمين على همساتها ونواياها التي في الصدور، إما تملقا وخوفا أو عجزا عن اقتراح الحلول والبديل، والحق أن هذا النفاق للسلطة يضر بالمنافق والمنافَق له، والسلطة الرشيدة لا تطلبه بل تأنف منه، لأنه ينطوي ضمنا على الغش والخديعة، كما انه يضمر شعورا مخفيا بالعداء للمنافق له، مثل أن ترى إنسانا يتجه على حافة جبل سيهوي منها، ويطلب منك الرأي هل هو على الطريق الصحيح أم لا ؟ فتقول له مجاملا : سر على بركة الله أنت على الطريق الصحيح!

جرعة النقد ومساحة التعبير عن الرأي المختلف في السعودية زادت في الآونة الأخيرة، رغم كل العثرات، وشجع عليها مساندة الملك لفتح قنوات الحوار، مثلما تم في مشروع الحوار الوطني الذي جعل الشيعي يجلس بجوار السني، والأصولي بجانب الليبرالي. صحيح أن ما تم هو «سنة أولى حوار» ولكنها مبادرة توضع في خانة الإيجاب لا السلب، لأن مجتمعنا لم يتعود على التلاقي والتحاور، بل على «النصيحة» والتوجيه ... والجميع ينصح الجميع ! وشتان بين أن نلتقي من أجل أن نتحاور ونختلف ونقترض من بعضنا الأفكار، وبين أن نلتقي من أجل أخذ النصيحة من هذا أو ذاك .

ارتفع هامش النقد في الصحافة، لدرجة شكا فيها كثير من الوزراء والمسؤولين من قسوة الصحافة عليهم، وانهم يرحبون بالنقد «البناء» فقط، وهي عبارة هروبية، كما لاحظ بعض الأذكياء، ولا معنى لها، إلا إذا كان النقد البناء يعني النقد الذي لا يغضب، ولا «يهش ولا ينش» !

بل وصل الحال إلى شيء أبعد من ذلك، فصرنا نشاهد أشخاصا على الفضائيات ينتقدون سياسات الدولة العامة في الاقتصاد والعلاقات الخارجية والتعامل مع المرأة ووضع القضاء والتعليم، ولا يسجنون ولا يصاب الناس منهم بالرعب ويتحاشون العلاقة بهم خوفا من السلطة. ربما ينزعج هذا المسؤول أو ذاك من طريقة وأسلوب النقد، ولكن لم يعد النقد بحد ذاته موازيا للخيانة الوطنية أو الارتهان للخارج أو الشذوذ عن «جماعة المسلمين». وهذا بحد ذاته تطور نوعي يجب أن يراكم عليه ويبنى، حتى نتعود كلنا، سلطة ومجتمعا، على الاختلاف والتحاور تحت سقف الوطن والمصلحة العامة. هذا هو «النفس» الذي يشعر به كل مراقب حصيف للصورة السعودية الآن، فالنفس نفس إصلاح وتغيير، وهذا هو المهم، أما تفاصيل الإصلاح وخطواته فربما تصيب هنا وتخطئ هناك، لا بأس ، فنحن بشر، ونجرب، سلطة ومجتمعا، ولا عيب أن نخطئ، ولكن الخطيئة كل الخطيئة أن يصبح التغيير والإصلاح بحد ذاتهما، ومن حيث المبدأ، ملغيَين ومرفوضَين، ولا أولوية لهما.

نتحدث هنا عن عمل جاد وحقيقي لتوفير أجواء الحرية والتعويد عليها وتربية المجتمع والسلطة على أساسها، وصولا إلى لحظة ينضج فيها الجميع للممارسة الديمقراطية الحقة، لا الديمقراطية المشوهة كما نراها من حولنا توصل أسوأ ما في المجتمع لقبة البرلمان.

نأتي للمهم وهو أهمية الحرية التي يجب صونها، كما في خطاب الملك عبد الله بن عبد العزيز. لماذا الحرية مهمة ؟ ولماذا يجب صونها ؟ وما هي الحرية المصانة؟ وهل تعني الحرية الانفلات؟ وهل التغير، الذي هو سنة الحياة، يعتبر انفلاتا لدى المحافظين على القديم؟ وهل يطيق المجتمع أوكسجين الحرية أم أن رئته تضيق به؟

أسئلة كثيرة وأساسية، ولكن ساقتصر على نقطة جوابية عامة.

الحرية هي جوهر الإنسان، وبدونها يصبح الإنسان مشوها مثل تمثال الشمع، شكله حقيقي ومضمونه فارغ من الروح والحرارة. الحرية هي مناط العلاقة بين الإنسان والوجود، الحرية أولا، الحرية أخيرا، كما هتف عبد الرحمن منيف، بشكل مقارب.

وإذا فقد الإنسان حريته، فقد معناه وسره، كما قال نزار قباني:

أنا حريتي فإن سرقوها

تسقط الأرض كلها والسماء

ولنا أن نتصور أن الحرية هي شرط الدين الحقيقي، لأن التكليف الإلهي مبني على الاختيار: «كل نفس بما كسبت رهينة»، والثواب والعقاب لا معنى لهما إذا كان الإنسان مجبرا، إذ كيف تعاقب أو تثيب إنسانا لا يملك الاختيار ؟!

والحرية هي شرط الحضارة والازدهار، إذ أن مجموع الإبداعات والاقتراحات والتجارب التي يقوم بها الإنسان في العلوم والفكر، هي التي ينتج عنها التغير والنمو وارتياد الآفاق الجديدة، وإذا لم يكن هناك جو من الحرية فإن هذا التغير والارتياد لن يتم بسبب وضع الحواجز والموانع والمحرمات في الطريق، فيكتفي الجميع بالتكرار والاجترار، ومن يتجرأ على قفز الحواجز، أو اختراق الموانع، يرمى بشهب التكفير والحرق الاجتماعي والسياسي. الحرية هي شرط بقاء الدول وصلابة النظام السياسي، لأنها التي تضمن بقاء هامش من الاختلاف المثري، وتضمن ديمومة النقد المصحح لسلوك الدول والمجتمعات، وإذا ما قمع هذا النقد وحورب، فإن الداء الذي انصب عليه النقد لن يزول بزوال النقد، بل سيتضخم ويتعاظم حتى يأكل المجتمع والدولة معاً، في حين أنه كان في حينه مرضا أو عرضا قابلا للشفاء، لو ترك لمبضع النقد «الشافي» سبيله لأن يتعامل مع المرض الصغير.

وأخيرا، فالحرية هي شرط الجمال والإبداع، فبدونها لن نرى أدبا ولا راوية ولا شعرا ولا رسما ولا موسيقى حقيقية، لأن هذه الفنون بطبيعتها تتنفس الحرية وتختنق بالقيد والمنع، ولذلك نرى الأدب والإبداع رثا وتعيسا في ديار العرب، وما شابهها، قياسا بما وصلت إليه الفنون في المجتمعات المتقدمة.

هناك حرب خفية بين أنصار الحرية وأنصار الرق الفكري والثقافي، وعلى ضوء هذه المعركة سيتحدد مصير هذا الجزء من العالم، حرب تستخدم فيها كل الأسلحة ضد أنصار الحرية، من التخوين إلى الاتهام بالعمالة، إلى المروق من الهوية، إلى الارتزاق، وتستخدم فيها سطوة الدين وسلاح الفتوى، كما رأينا ونرى دوما في فتاوى التكفير والردة لكتاب ومفكرين ومبدعين وفنانين عرب، آخرها فتوى بتكفير كاتبة مصرية، وقبلها كفر الشاعر الشهاوي وسيد القمني والعشماوي ونصر ابو زيد ونجيب محفوظ ... وغيرهم كثير.

والآن، وفي آخر القطاف المر، فتوى من شيخ سعودي بتكفير كاتبين سعوديين وإهدار دمهما والحكم بردتهما... وهكذا الحبلُ على الجرار ما دام سلاح التكفير والاتهام بخيانة الوطن والدين أسهل من شرب الماء، ففي رسالة دكتوراه واحدة، في إحدى الجامعات السعودية، أحصى باحث عربي حوالي 200 اسم لمثقفين عرب تم تكفيرهم أو رميهم بالمروق والعمالة في هذه «الأطروحة الجامعية»!

هل تضيق رئة المجتمع بالحرية؟ هل يفجر هواء الحرية شُعَبَنا التعبة المزدحمة بدخان التعصب؟

في ظني أنه لا يخشى الحرية إلا الضعفاء، من الأشخاص والمجتمعات والأفكار. من كان فكره قويا أو مجتمعه راسخا فإنه لا يخشى من تعدد الأصوات، ورياح الحرية، لأنها ستزيده بهاء وقوة وجمالا، فهي، أي الحرية ، تكشط وتزيل الهشيم من الأوراق والشجر، فتذروه مع العدم. وتبقى الأشجار الكبيرة نقية صلبة مثمرة. وكما قال الملك في (خطاب الحرية): «الحرية المسؤولة هي حق لكل النفوس الطاهرة».

[email protected]